د. محمد الصياد*
مر المعدن النفيس «الذهب» بأيام صعبة جداً في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي وبروز أمريكا كقوة عظمى وحيدة في العالم، ما رفع هيبة الدولار الأمريكي وثقة العالم أجمع فيه. لكن ذلك لم يستمر طويلاً، فمع بداية الألفية الثالثة، وحين راحت الحكومات الأمريكية تغرف من هذه المكانة ديوناً متراكمة، بدأت الثقة تتحول من الدولار إلى الذهب ثانيةً. وارتفع سعر الذهب بصورة كبيرة في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001، قبل أن يتوقف اتجاهه الصعودي في الفترة من 2012-2015، ليعود اعتباراً من 2016 للصعود من جديد (باستثناء انخفاض طفيف في 2018). ومنذ بداية هذا العام (2024)، ارتفع الذهب بمقدار 658.62 دولار أمريكي للأوقية أو 31.93%، وفقاً للتداول على عقد الفروقات (Contract For Deference - CFD) الذي يتتبع السوق المعيارية لهذه السلعة. وصول الذهب إلى أعلى مستوى له على الإطلاق عند 2722.51 دولار في أكتوبر 2024، هو تطور تاريخي، كان مدفوعاً بالطلب العالمي على أصول الملاذ الآمن وتوقعات بخفض أسعار الفائدة بشكل أكبر من البنوك المركزية الكبرى، حيث خفض البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة للمرة الثالثة هذا العام، وخفض سعر الفائدة على الودائع إلى 3.25%. كما وجد الذهب دعماً من التوترات المتزايدة في الشرق الأوسط. لكن بيانات الأداء الاقتصادي الأمريكي الإيجابية، حدت قليلاً من الزخم الصعودي للذهب.
كما كان الطلب المتزايد على الذهب كأصل ملاذ آمن مدفوعاً أيضاً بعدم الاستقرار المصرفي الأخير الذي نشأ عن انهيار بنكين إقليميين في الولايات المتحدة في شهر مارس الماضي (2024).
في الغالب يتم تداول الذهب في سوق لندن للسبائك London bullion market (سوق بيع بالجملة خارج البورصة) Over-the-counter (OTC) market لتداول الذهب والفضة والبلاتين والبلاديوم بين أعضاء رابطة سوق السبائك في لندن LBMA. وهي عملية تخضع لإشراف بنك إنجلترا، وأعضاؤها هم بنوك دولية كبرى وتجار ومصافي سبائك، وكذلك في سوق العقود الآجلة الأمريكية (COMEX)، وبورصة شنغهاي للذهب (SGE). العقد الآجل القياسي هو 100 أونصة تروي Troy، وهو نظام لقياس المعادن الثمينة والأحجار الكريمة، وأصل الكلمة مأخوذ من الإنجليزية الوسطى المتأخرة: من وزن يستخدم في معرض تروا، وهي بلدة تقع في شمال فرنسا.
ويتوزع الاستثمار العالمي في الذهب، الذي يزداد خلال فترات عدم اليقين السياسي والاقتصادي على النحو التالي: نصفه موجه للتصنيع والاتجار في المجوهرات، و40% للاكتناز كاحتياطيات، و10% في الصناعة. وأكبر منتجي الذهب هم الصين وأستراليا والولايات المتحدة وجنوب إفريقيا وروسيا وبيرو وإندونيسيا. وأكبر البلدان المستهلكة للمجوهرات الذهبية هي الهند والصين والولايات المتحدة وتركيا والمملكة العربية السعودية وروسيا والإمارات العربية المتحدة.
الآن نلحظ سباقاً محموماً بين مواصلة الذهب لاتجاهه الصعودي، وبين الكوابح التي تبغي وقف هذا الاندفاع. فبينما يحاول الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، الذي تتحمل سياساته النقدية بديناميكياتها الداخلية المتضادة، جزءاً كبيراً من مسؤولية هذا الصعود التاريخي لنجم الذهب، نشر سرديته على نطاق واسع بشأن ما يبغي هو نفسه حدوثه، وهو «الهبوط الناعم» (Soft landing) للاقتصاد الأمريكي، لا يعير الذهب هذه التطمينات أدنى التفاتة، إذ يصر على التمسك بزخمه الصعودي، وكأن الأمر بالنسبة للذهب، أو بالأحرى المتعاملين به، قد حسم لصالح ترجيح دخول الاقتصاد الأمريكي في حالة ركود. ونتذكر أنه في تسعينيات القرن العشرين عندما حقق بنك الاحتياطي الفيدرالي هبوطاً ناعماً، تم تداول أسعار الذهب عند مستويات أدنى. لكن الآن، أسعار الذهب ليست فقط عند مستويات قياسية، بل إنها ترتفع بوتيرة تقترب من الرقم القياسي. ولا يبدو أن خفض سعر الفائدة بمقدار، وانتعاش الدولار، يمكن أن يكبح صعود الذهب. فالبنوك المركزية في جميع أنحاء العالم تقوم بتخزين الذهب، ووصلت احتياطيات الذهب العالمية الرسمية إلى 1170 مليون أونصة تروي، وهي الأكبر منذ سبعينيات القرن العشرين (بحسب دراسة أجرتها هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية United States Geological Survey، تبلغ الاحتياطيات العالمية ما يقرب من 57 ألف طن.
وقد يؤدي تسعير الطلب على الذهب لانتعاش التضخم في عام 2025 وما بعده. فالذهب هو أفضل وسيلة تحوط ضد التضخم.
وهذا هو السبب في أن أسعار الذهب تؤدي عادةً إلى ارتفاع مؤشر أسعار المستهلك. وفي ضوء التوترات الجيوسياسية الكبرى التي تسيطر على المشهد العالمي، أصبح الذهب أكثر ثقة من الدولار أو اليوان الذي يحاول إزاحة الدولار والحلول محله، متسلحاً بالمستوى القياسي الذي وصل إليه الدين الوطني الأمريكي (35.7 تريليون دولار)، والاندفاع الحكومي غير المسيطر عليه للاستدانة قبالة طاقة محدودة على توليد النمو. حيث ارتفع الدين الأمريكي منذ عام 2020، بمقدار 12.5 تريليون دولار، بينما ارتفع الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي بمقدار 7.1 تريليون دولار.
الدين يرتفع بسرعة تقارب ضعف سرعة نمو الاقتصاد. وقد يكون مجلس الاحتياطي الفيدرالي، قد اتخذ قراراً خاطئاً، لحسابات سياسية انتخابية، بعكسه الاتجاه الصعودي لسعر الفائدة.
فما زالت مفاعيل التضخم حاضرة وستشتد سخونة، ما قد ينتهي بركود تضخمي وليس هبوطاً ناعماً، كما يشتهي الاحتياطي.
*خبير بحريني في العلاقات الاقتصادية الدولية
0 تعليق