د. رامي كمال النســور*
تلعب الديناميكيات الجيوسياسية دوراً مهماً في تشكيل المشهد الاقتصادي والمالي لأي دولة وللدول المجاورة لها. وبالنسبة للمستثمرين والمحللين وصناع السياسات، يعمل التصنيف الائتماني لأي دولة كمؤشر حاسم لاستقرارها الاقتصادي وقدرتها على الوفاء بالتزامات الديون. وتتأثر هذه التصنيفات بشكل عميق بالأوضاع الجيوسياسية، والتي يمكن أن تخلق تأثيرات متتالية عبر مناطق بأكملها. في هذا المقال نحاول أن نستطلع كيف تؤثر العوامل الجيوسياسية في التصنيف الائتماني للدول.
تعكس التصنيفات الائتمانية، التي تمنحها وكالات مثل «موديز» و«ستاندرد آند بورز جلوبال» و«فيتش رايتنجز»، الجدارة الائتمانية للدولة. ويتم تحديد هذه التصنيفات بناءً على عوامل مثل الأداء الاقتصادي والسياسات المالية والاستقرار السياسي والضعف الخارجي. هذا وتشير التصنيفات الأعلى إلى انخفاض المخاطر بالنسبة للمستثمرين، في حين تشير التصنيفات المنخفضة إلى ارتفاع المخاطر والضائقة المالية المحتملة.
إن الأحداث الجيوسياسية، التي تراوح بين الصراعات العسكرية والنزاعات التجارية، يمكن أن تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر في التصنيفات الائتمانية. فالصراعات المسلحة وعدم الاستقرار المطول يعملان على تقويض ثقة المستثمرين بشكل كبير. فهما يعطلان النشاط الاقتصادي، ويزيدان من الإنفاق الحكومي على الدفاع، ويقللان من القدرة المالية. وعلى سبيل المثال، أثناء بدء العملية الروسية في أوكرانيا في عام 2022، وحتى الآن، تم تخفيض التصنيف الائتماني لأوكرانيا إلى مستويات قريبة من التخلف عن السداد، ما يعكس الضغوط الشديدة على اقتصادها. كما شهدت البلدان المجاورة تدقيقاً متزايداً مع تصاعد خطر التداعيات الاقتصادية وأزمات اللاجئين.
كما أنه يمكن للعقوبات أن تشل الأساس الاقتصادي للدولة، وخاصة في الاقتصادات المعتمدة على التصدير. فعلى سبيل المثال، أثرت العقوبات المفروضة على روسيا ليس فقط في تصنيفها الائتماني ولكن أيضاً في تصنيفات شركائها التجاريين، وخاصة في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى، بسبب تعطل سلاسل التوريد وانخفاض أحجام التجارة.
وكذلك يمكن أن تؤدي الاضطرابات السياسية أو تغييرات النظام إلى حالة من عدم اليقين بشأن استمرارية السياسة. وغالباً ما تواجه البلدان التي تشهد احتجاجات جماهيرية أو انقلابات أو أطر حوكمة ضعيفة، تخفيضات في التصنيفات الائتمانية؛ حيث يعمل عدم الاستقرار السياسي على ردع الاستثمار وإعاقة النمو الاقتصادي. على سبيل المثال، خلال ما سُمي بـ«الربيع العربي»، شهدت العديد من بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا انخفاض تصنيفاتها الائتمانية؛ حيث أدت الاضطرابات السياسية إلى إضعاف الاقتصادات.
وغالباً ما يكون للمخاطر الجيوسياسية في بلد واحد آثار جانبية في الدول المجاورة. ويمكن أن تؤدي الروابط الاقتصادية المشتركة، مثل اتفاقيات التجارة أو اتحادات العملة، إلى تضخيم نقاط الضعف. على سبيل المثال، خلال أزمة الديون في منطقة اليورو، أثر عدم الاستقرار باليونان في التصنيفات الائتمانية لدول جنوب أوروبا الأخرى، مثل البرتغال وإسبانيا.
وفي المناطق التي تهيمن فيها موارد الطاقة على الاقتصاد، يمكن للتوترات الجيوسياسية أن تؤثر بشكل كبير في التصنيفات الائتمانية. فعلى سبيل المثال، غالباً ما تؤدي الصراعات في الشرق الأوسط إلى تقلبات في أسعار النفط، ما يؤثر في التدفقات المالية للدول المصدرة للنفط والمستوردة له على حد سواء، وهذا يظهر أهمية التنويع في الموارد المالية مثل ما فعلت دولة الإمارات التي قدمت نفسها نموذجاً ناجحاً ومتميزاً في تنويع مصادر الدخل، وشكّلـــت فيهـــا الإيرادات من التجارة، وخاصة تجارة الترانزيت والسياحة بأنواعها، موارد دخل تعوض أي تراجع محتمل في أسعار النفط، ما يساعد على الحفاظ على تصنيف ائتمان عالٍ بغض النظر عن الإيرادات المتحققة من مصادر النفط.
إن المواقف الجيوسياسية حقيقة لا مفرّ منها في الاقتصاد العالمي المترابط. ويسلط تأثيرها في التصنيفات الائتمانية، الضوء على الارتباط المعقد بين السياسة والاقتصاد، ما يؤكد الحاجة إلى اليقظة والتخطيط الاستراتيجي. وفي حين لا تستطيع الدول عزل نفسها تماماً عن الصدمات الخارجية، فإن التدابير الاستباقية يمكن أن تساعد على تخفيف المخاطر، وضمان قدر أكبر من الاستقرار وثقة المستثمرين في مواجهة عدم اليقين.
* مستشار الأسواق المالية والاستدامة
0 تعليق