تكوّر بطن الأمّ، وكل يوم يدحسها الجنين، تتذكر قول الخطاطة، فتنظر للسماء، وتدعو يالله في ذرو صالح؛ لا جرو نابح، ولا غرو طالح، واقتربت ساعة المخاض، فاستعانت بمن يفزع لها ولا فازع مثل الله، واندهشت القابلة أن المولود خرج بقدميه، فبدأت تسحب، ولكن الوالدة خنّقت على رأسه، فازرقّ بدنه، وصاحت النسوة المساعدات عليها، ذراك بيموت، ادفعي بقوة، فدفعت وخرج الطفل الذي سبق نحسه سعده، فتهلل وجه الأم، ولم تلقِ عليه أي نظرة، بل سلّمته لجاراتها، وكان الطفل هادئاً لا يُكاد يسمع له صوت.
وفي يوم ختانه، اجتمع الأخوال والأعمام، وجاء المطهّر الذي تقدمت به السنون، فكلّ بصره، وارتعشت يده، ولكن ما معهم غيره، فقطع ما يُسن قطعه من عضو الرضيع، ويبدو أنه بالغ، فنزف حتى اصفرّ لونه، ووجهت به أمه للقبلة، لكن ما إن جاءت زوجة خاله (سالمة) بالوجار الطافح بالسمن وحليب المعزا العارضية، حتى قبّ الوجار، وفتحت عيونه، فرمى أبوه بالبندق ثلاث رميات، وقال سميناه (سالما) على خاله.
في يوم زواج بنت عمه، سرحت أمه وادي الغدير، فسرح معها، لتغسل ثوبه الذي ليس معه غيره، فاحتطت الثوب من فوقه، وغسلته، ونشرته على شجرة سوسي، وطلبت منه يدّرِق تحت الغربة لين يجف الثوب، ولأن سالم عَجِل على الحياة، ونَهِم، احتج على والدته بقسوة، ما جفّ ثوب بقعا، ليتك ما غسلتيه، كان خليتيه بطبسه، فقامت أمه تضربه على الصخرة بعدما قلبته، حتى جفّ بعض الشيء، عندها زاد أمله في حضور الزواج، فارتدى الثوب الذي ما زال سامطاً؛ واقتعد فوق صخرة جنب الغدير، ليدفأ من سمطة ثوبه، ثم يلحق بالورعان في ساحة الزفاف؛ وكان ينتظر أمه المشغولة بلمّ بقية الغسيل، من فوق الهضاب المنبطحة على ضفتي الوادي، ومن فوق أغصان الشجر، ولمح سالم العوّام يدرج فوق الماء، وسبق أن سمع أن الذي يعضّه العوّام في لسانه يعرف يصفّر، فانقلط بثوبه، ونسي العرس والرفاق، وأوشك على الغرق، فسحبته أمه بكعشته، وطلع بدون العوام وبكى، فقالت الأم، إذا وصلنا البيت جففته لك على وارية القبس، وتأخر عن حضور الزواج حتى اطمأن أنهم صلّوا المغرب، وغدّرتْ، فتسلل ودخل بين أقرانه ورائحته داخنة عرفجة.
حطوا عشاهم، وتداحش الصغار فوق صحن، بركن مظلم من الخيمة المنصوبة في الجرين، وقال أحدهم، وشبك تداحش يا عرفجان، يا سالم حق العبد، فرثمه بكوعه، وإذا كل حمراء تنزي، وتصايح محبو الشرّ والفتنة، وبعدما كانت بين الصغار، غدت بين الكبار، ولأن سالم وحيد أبوه، وما جاه إلا على كبر بعد سبع بنات، كان ما يلام فيه طزة الشوكة، فسحب سلّة جنبيّته، وقال؛ زعرّة يقرب واحد منكم من ولدي، وتقدم العريفة لين وصل عنده، وافتك الجنبيّة وقال؛ أنت وهم مكبورين، اقعدوا على أخواشكم، وما بنحط عداوة عشان السفان، يتضاربون ويعودّون يتلاعبون، وجنبيّة أبو سالم معدال مني لكل طلّاب حق، فردد الجميع؛ ما لنا حقّ على أبو سالم وعسى الدنيا فدى رجولك يا عريفتنا، فقال الشاعر دقوا الزير خلونا نلعب لنا ساعة، وبدع (يا صالبي مزرعه باعلى شدا ما نشا بير، يجيره الله من الخطلان والعيبثاني)، وقام أبو سالم يرقص بين الصفين فناوله العريفة الجنبية، والنسوان يخيّلن من الطاقة.
اشتد عود سالم، فشغّله والده مع البنّاية، مقرّب، وفي صباح يوم شتائي، وهو صاعد بحجر فوق السلم، طيّحه فوق رأس الملقّف، وبغى يتويه، ولم يجد والده بُداً من تسفيره، مع شيخ المجاودين، وقال؛ فكني من شره، كل يوم ياهب لي طِلبة؛ وما لي غِنى عن جماعتي، فسافر تحفه دعوات أمه، التي كانت تردد «ودّعتك ساهرا ما ينام» وصلوا إلى البيت الحرام، وتلازم سالم مع سايق عربية في المسعى لأنه دقه في كعبه، وغصبن فكوا بينهم، صاح فيه شيخ المجاودين؛ تخليك آدمي وإلا ركّبتك الجبل.
بحثوا له عن عمل، ولم يجدوا له إلا صبي قهوة، وقال له مالك القهوة؛ يا واد ما عندي إلا نوبة ليلية، تبغى يا مرحبا يا فركس، ما تبغي مع السلامة يا فركس؟ فما فهم كلامه، وكاد يغلط، فلزمه شيخ المجاودين، وقال؛ تأخذ ريالين كل ليلة، وشغلك من نص الليل إلى الصبح، وتروح ترقد في الصندقة اللي ورا القهوة، ودراهمك تدسها عندي، وبدأ العمل، يشيل ويحط في البراريد والروس، وكلما عوّره ظهره، ووقف ينتسم، قال سالم ما سِلم، فيصيح عليه صاحب المقهى، اشتغل يا حُجز، فيرد؛ أبشر يا عمّ، وينظر للسماء قائلاً؛ يبدو صدت دعوة أمي، وانطلق يعمل مردداً (ودعتك ساهراً ما ينام، ودّعتك ساهراً ما ينام).
0 تعليق