المدينة والجرس: هنا لندن أو هناك أو... في كل مكان! - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف
في البدء كان صوت الجرس، تتشبث به طفلاً وهو يلقي برناته عبر الإذاعة الوقورة، والتي قيل لك إنها تأتي من هناك، من لندن البعيدة. وكان صوت الجرس هو الطرقة الأولى في مخيلتك، ثم كانت لندن أم الحكايات، مبتدأً وخبراً. تتساءل لماذا يتحلق حول هذا المربع المعدني، كبار المكان لكي يسمعوا القصص والحكايا التي تأتي من هناك. شيء من السحر يتسرب إليك، وترسم في خيالك المدينة التي تحلم بها. تلك المدينة التي تتحدث إذاعتها عن بُعد، ويسمعها الجميع بوقار.

وتقودك المقادير آجلاً غير عاجل، بعد سنوات وسنوات، لتغوص في تلك المدينة، فاتحاً كل أبوابها، وكأنك تعرفها منذ زمن. تسير فيها كأنك تملكها، وتهب لك كل ما حلمت به، وتعيش معها قصة حب لن تتكرر معك أبداً وأبداً، في أي مدينة أخرى. إنها ساحرتك الكبيرة، وحبيبتك الأولى، والأخيرة. سنوات من الأحلام لم تشعر بها، فقد كان الحلم يفوق كل التصورات. وتجلس الآن تتأمل ما يقوله شاعر الدنيا، العم الباقي أبو محسّد: ذكرت بها وصلاً كأن لم أفز به/‏‏ وعيشاً كأني كنت أقطعه وثبا.

تسير في لندن وتتذكر أحلامك القديمة، والشفق المستضيء في مخيلتك، عن منديل الجيب الذي يمسح دموع الجميلات، والقداحة التي توقد سجائرهن النحيلة، والتحيات الأولى، وحديث الطقس فاتح كل الأبواب الغلاظ الشداد، والباصات الحمراء التي تشق النهار، وتشعل بهجتك كلما ارتطمت بالأغصان الخضراء التي تظلل الأرصفة التي مشى عليها الزمن، والبشر.

ثم تكتشف بعد مرور بعض من العمر، أن كل شيء قد تغيّر، بالنسبة لك. لم تعد للأشياء ذات اللون، والطعم، والرائحة. كبرت أنت، وكبرت الحروف، والمدينة كبيرة كبيرة، عتيقة عتيقة. لقد أغلقت بوابات المترو أبوابها، ومضى سريعاً... سريعاً، وكأنه طلقة معدنية من عصر آخر. تتذكر: إنه لا ينتظر، ولا يعبأ، بمن لحقوا به، أو قضوا وقتهم في الانتظار. إنه يسير، ويمضي، ويعبر. ثوانيه ساعات من عمرك، والحياة انتظار طويل.

تمر عليك مجموعة من البشر، والصور، هذا هو «بوش هاوس» حيث كانت الإذاعة اللندنية العظمى بي بي سي العربية، تطير من هذا الحي اللندني الوقور، إلى العالم أجمع. غير بعيد عن المسارح الشهيرة، وعلى ضفاف هولبورن. وتتذكر كيف زرتها صحافياً شاباً منبهراً بكل شيء، وتمر بها الآن وقد تغيرت أنت، وهي، وذهبت الإذاعة العريقة إلى مكان حديث أكثر حداثة. تركت عالم الحجر القديم، إلى مزارع الزجاج الجديدة.

لقد كنت هنا، وهناك، وهناك. وتسرّب العمر بين الأرصفة والقطارات، والمطارات. وكم كبير من الأحلام مضى تحت جسر قلبك. بيد أنك لست العاشق الوحيد، ولن تكون. مر قبلك كثيرون، وسيأتي بعدك من سيكتبون أعمارهم، وأحلامهم، وذكرياتهم على كل الأرصفة، وسوف تتهاطل ذكرياتهم ماء من الملح، في القلوب والأحداق.

لقد مررت بـ«فليت ستريت» حيث ولدت الصحف الأولى، وكان يصطخب بصنّاع الخبر، والخير، والشر، والمتعة. لقد شاهدته ومازال فيه ما فيه، وشاهدته على اقتراب الغروب، وهو ينطفئ رويداً رويداً. كان قِبلة القبل، وقُبلة القُبل، في عالم النشر والناشرين، والصحافيين والحالمين، حيث الكلمات في كل مكان، والصفحات بهجة الليل، وكثير من الأسرار التي تتنقل بالرموز وبدونها أحياناً. لقد ذهب المجد والتهمه الليل سريعاً، وقد كان ينبوع الحكايات في العاصمة الإمبراطورية العظمى.

أما هذا فهو فندق «ساڤوي» وقد كنت تمر به قبل وصولك إلى محطة القطار في «شارنج كروس» التي كانت تحملك إلى الجنوب الإنجليزي الحالم، الشبيه بجنوبك العتيق. وتتذكر كيف كان الشارع النحيل بالجوار مليئاً بالمكتبات الصغيرة، حيث رائحة الكتب وألوانها تبعث البهجة في الروح، وأغلفتها المذهبة تضفي عليها لمسة التاريخ مذهلة التفاصيل.

كان النهم شديداً وأنت تتنقل بين الحرف والحرفة. وكم كان القدر كريماً معك، فكانت هوايتك عملك، وكنت تطارد الصحف والأخبار والهموم، كعاشق يفتش عن حبه الأول. كانت ليالي السبت العتيقة فرصتك للحصول على صحف الأحد، الصاخبة العابقة بكل أخبار الكون، وكأنك تحصل على خبز طازج قبل أن يفتح المخبز أبوابه. وتستيقظ نهار الأحد لتقضي كل الشروق وأنت تستمتع برحلتك الأسبوعية الأخاذة، بين «فاينانشيال تايمز»، والمحافظة الرؤوم «ديلي تيلغرف»، والعمالية الرشيقة «ديلي ميل».

هل قلت ديلي ميل؟ نعم نعم. إنها بوابتك الأولى وأنت تتذكر العائلة الإنجليزية التي أسكنتك في بيت ذي زرع، وحبور، وهم يتناولونها مع الإفطار. وتظل متشوقاً لتعرف هذا العالم الذي يغوصون فيه. وكيف كل صفحة بوابة من الأحلام. يأسرك المشهد: تجلس سيدة المنزل وهي تدهن قطعة من الخبز، بالزبدة الصفراء اللامعة، ثم تقضم منها بهدوء مع كل صفحة، وتترك الصحيفة حتى يحين دور سيد البيت. وهكذا تدور الصفحات في أرجاء النفس.

لقد كان ذلك في تلك المدينة التي عرفت فيها جون لينون لأول مرة. تلك القصيدة الحالمة عن السلام في عالم الحروب. والتي طلب منك مُعلم اللغة الإنجليزية حفظها وشرحها. وكم كنت غضوباً ذا شطط وأنت تقول إنها قصيدة تافهة، وأغنية بسيطة. ثم تكبر وتعرف ماذا رفضت، ولماذا غضبت، ويتحول الشطط إلى شغف بهذه الفرقة العظيمة، التي صبغت عقداً بلونها الأخاذ، وأصبحت «البيتلز» لغة مستقلة وسفارة عالمية ومزاراً للعالم، وجون لينون بقي في قلب الجزيرة الصغيرة العظمى، حبها الخالد وكأنه من معلقات الشرق.

ومع صخب العمر تشعر وكأنك بستان من النخيل في أرض شكسبير، وجورج السادس، وديكنز، واليزابيث، وهوكينغ، والبيتلز، والباصات الحمراء. تتفجر حروفك وأنت تمر بالحجرات قرباً وازدلافاً، في «نايتس بردج»، حيث الممشى النهاري، وينتثر التاريخ حولك، غير بعيد عن فندق أوسكار وايلد، ومتحف فكتوريا وألبرت، وأنت تحث الخطى إلى سوهو الشعراء، والفنانين، وأصحاب الأحلام المشوشة.

وفي كل مكان فكرة، وحوار، ومشاهد لا تعد، ولا تحصى، والكثير الكثير من الذكريات.

يتبخر العمر وتمضي الأيام سريعاً، سنوات تخالها لحظات، وكأنها صفحة واحدة في تقويم الأيام. تبقى أنت وحدك، وكم كبير من الذكريات يزداد ويزداد، حتى يأتي النسيان ليأخذ كل هذا العالم من على كاهلك، يمسح زمناً غابراً بأمل مستقبل، وتوشك أن تقبل رأسه شاكراً ومقدراً هذه الخدمة. العمر قصير، والحمل كبير، والذكريات رماح مضنية.


إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق