هذا الحديث مخالف لما ورد في القرآن الكريم عن كيفية خلق الله للإنسان الذي بيّنه الخالق في قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ). الآية تخالف هذا الحديث من حيث كيفية خلق الله للإنسان وكيفية حسابه وعقابه بقوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)، بل إن الله لا يعذب قوماً حتى يبعث إليهم رسولاً ليكون حجة عليهم، فكل مشاهد الآخرة حسمها القرآن ووضحها ولا مجال فيها لمجتهد.
والسؤال: هل كل حديث نسمعه صحيح ويجب العمل بما جاء فيه؟ إن النصوص الشرعية من الكتاب والسنة تتجاذبها الأحكام الأصولية وقواعدها من الأخذ والرد بين الناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد والعام والمخصوص والمجمل والمبين والنص والظاهر والحقيقة والمجاز والمشتركات اللفظية والمشتركات المعنوية ودلالات الاقتضاء وعموماتها ومفاهيم الموافقة ومفاهيم المخالفة وعبارات النص وإشارته، وصيغ الأوامر والنواهي ودلالاتها على الوجوب أو الندب أو الإباحة أو الكراهة أو التحريم والصوارف من مرتبة لأخرى إلى غيرها من الأحكام الأصولية المتبعة لدى أهل العلم في استنباط الأحكام الشرعية من نصوصها.
بعد ذلك تعتريها أحكام ترتيب الأدلة بدءاً بالأقوى، ثم بعد ذلك تعتريها أحكام التعارض وقواعده وأسس الجمع والتوفيق إن أمكن بين المتعارضات.
ثم تعتريها أحكام التراجيح بالمرجحات لإعمال أحد الدليلين أو إعمالهما معاً أو إيقاف أحدهما أو إيقافهما معاً.
وآخر هذه المراحل تدخل هذه النصوص في أحكام الأولويات الأصولية وفق القواعد المتبعة لدى كل إمام من أئمة الفقه. فالمشهور مثلاً عن مالك أنه يقدم عمل أهل المدينة على خبر الآحاد، فهو لا يعمل بحديث (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) رغم شهرته وصحته، كما يجيز للأب تزويج البكر البالغ من غير استئذانها، رغم صحة وشهرة حديث لا تنكح البكر حتى تستأذن.
والمشهور عن أبي حنيفة أنه لا يخصص ولا يقيد النصوص من القرآن الكريم بخبر الآحاد ولا يعمل به إذا خالف ما تعم به البلوى في حياة الناس.
والمشهور عن الشافعي أنه يعمل بمراسيل ابن المسيب بشروطه دون غيره من التابعين، خلافاً للأئمة الباقين في أخذهم بمراسيل كبار التابعين بشروطهم مع أن المرسل في تعريف المحدثين حديث ضعيف لافتقاره إلى سلسلة السند.
فالشاهد أنه لابد لأي نص شرعي قبل الاعتماد عليه في استنباط الحكم منه لابد من المرور به عبر هذه القنوات المذكورة واحدة تلو الأخرى وفق ترتيب معين مصطلح عليه بين الفقهاء، حتى يكون النص صالحاً للعمل به، بصرف النظر عن كونه صحيحاً في البخاري أو في مسلم أو متفق عليه بينهما أو هو مما تقبلته الأمة بالرضى والقبول.
فصحة الحديث لوحدها أياً كانت لا تقتضي وجوب العمل به، بل ينبغي أن يضاف إلى ذلك ما تقدم من الأحكام الأصولية. ولذلك قال ابن تيمية ما في الكتب أنفع من صحيح البخاري. لكن هو وحده لا يقوم بأصول العلم.
إذ لابد من معرفة أحاديث آخر وكلام أهل الفقه، فكم من حديث صحيح لا غبار على صحته وقد وصل إلينا عبر أقوى السلاسل الذهبية في السند وأقوى عمومات العقل والنقل في المتن ومع ذلك ذهب أئمة الفقه إلى العمل بخلاف مقتضاه، وكتب الفقه طافحة بمثل هذا، فمثلاً حديث (إنما الأعمال بالنيات) وهو في الصحيحين بل بدأ البخاري به كتابه الجامع الصحيح، ومع ذلك لم يعمل به أبو حنيفة في وجوب النية في الوضوء أو الغسل في الطهارة ورفع الحدث. ومالك لا يعمل بحديث غسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب، رغم صحته وشهرته في صحيح مسلم ومسند أحمد وابن ماجة والدارمي وأبي داود والنسائي.
وحديث اليمانية في وجوب الزكاة في حلي الذهب لا يعمل به الإمام أحمد ولا الشافعي ولا مالك على شهرته وصحته على شروط البخاري.
وصحة حديث (من أكل أو شرب ناسياً فلا شيء عليه فكأنما أطعمه الله وأسقاه)
لم يأخذ به الإمام مالك فأوجب على من فعل ذلك القضاء، رغم صحة الحديث وشهرته. وحديث (الولد للفراش) لم يعمل به أحمد ولا مالك ولا الشافعي في لحوق النسب رغم صحته في الصحيحين ومسند أحمد والترمذي والنسائي.
بل لم يأخذ الأئمة الأربعة في وقوع الطلاق الثلاث واحدة رغم صحته في مسلم والمسند.
فالشاهد أن صحة الحديث لوحدها لا توجب العمل به، فليس كل حديث صحيح يجب العمل به لما تقدم من قواعد الإعمال أو الإيقاف للنصوص المتعارضة وفق ما ذكرها أهل العلم، ووفق الأولويات الأصولية المتبعة لدى كل إمام من أئمة الفقه.
كثير هي الأحاديث التي نسمعها وهي تخالف ما ورد في القرآن الكريم وتخالف منطوق العقل. وللحديث بقية..
0 تعليق