عاجل

دفاتر الطين والدم - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة حذف

من المرات القليلة التى كان له فيها حضور ساطع فى النجوع يوم وفاة شقيقه عبدالقادر، فقد بكى بحرقة وهو يودعه كما لم يبك منذ أن مات والده الحاج محمود، ففى يوم تشييع عبدالقادر انهزم حزمه المعهود وصلابته تجاه المحن، استرجع شريط ذكريات مؤلمًا، وتمنى لو عاش فى جنة سلام ما مع عبدالقادر منذ أن وعى هذه الحياة، حيث لا أرض ولا أموال ولا الدنيا كلها تساوى ساعات صفاء بين شقيقين ولا يشعر المرء كم هو غالٍ وعزيز على شقيقه، رغم كل الخلافات والمشاكل، إلا فى لحظة الفراق الأخير الكاشفة الموجعة للغاية!

الأولاد كبروا وانتقل معظمهم إلى القاهرة للدراسة والعمل، بتشجيع منه، بعد ما أطلق عبارته المستبصرة: «أنا عايز أزرعكم شجر كبير يا أولادى، بس الأرض هنا مش ها تساعدكم، مش عايزكم شجر يطرح دم عايزكم شجر يطرح حياة أحلى وسعادة وتقدم»!

أصبح مجىء أى من الأولاد مدعاة لتحريك حياته شبه الراكدة المتنقلة بين المقهى والجرائد ونشرات الإذاعات وشراء احتياجات البيت، كان يصطحب الأولاد إلى البلد فى إحدى زياراته مع ابنه الأصغر خالد الذى التحق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية وكان يرى فيه نفسه ويحلم أن يراه سفيرًا قرر التبرع بأربعة قراريط من أرضه القريبة من النجع لمدرسة جديدة، بعد أن ضاق المبنى المؤقت على التلاميذ، وأقنع أخاه الأكبر عبدالرحمن بتبرع مماثل. شعر بسعادة غامرة بعد أن انتهى بناء المدرسة خلال عام. كان يحب أن يزورها فيستقبل بترحاب من الناظر والمدرسين والتلاميذ، فالكل يدرك أنه الرجل الذى زرع نخل التعليم فى النجوع الغربية، لكنه كان متأكدًا أن التعليم وحده لا يكفى، قال لخالد ابنه ذات مرة: 

- بص يا ابنى البلد دى محتاجة ثورة بس دا هياخد وقت!

- مين اللى هيعمل الثورة يا بابا؟

- يمكن جيلكم.. يمكن جيل بعدكم، لكن إحنا انتهينا يا ولدى!

- أنتو الخير كله يا بابا!

- مش هنضحك على نفسنا يا خالد إحنا انهزمنا من زمان، الحروب أنهكتنا هنا وبرة، بس نهضنا زى مصر ما قامت بعد سبعة وستين، لكن العساكر اللى حققوا نصر أكتوبر أغلبهم ما حاربش فى سبعة وستين، والتغيير لازم يكون من تحت.. فى الناس قبل كل شىء، مش فى القادة بس يا ولدى والسادات لوحده ما يقدرش يعمل معجزات!

تمكن الربو من الحاجة أم شوقى زوجة حامد وأصبحت تقضى معظم الوقت فى المستشفى ترقد تحت أنبوبة الأوكسجين. كانت ترغب فى العودة إلى البلد، لكنه كان يرفض بعناد، معللًا ذلك بأن البلد بعيدة عن المستشفيات ووسائل العلاج، لكنها كانت تحن إلى البيت والنخل والقمح والطين والدجاج وطلة الجارات، وغبار الحمير القادمة بالضيوف وتلك التى تحمل المحصول، تشتاق إلى كل شىء فى النجوع الغربية، وتكره كل شىء فى أسيوط، حيث الجدران الضيقة والجيران النافرون والأصوات الزاعقة التى لا تحترم هيبة الليل، كما عرفتها فى قريتها.

فى إحدى زيارات خالد الذى كان يكثر المجىء من القاهرة لأبيه وأمه قالت له: 

- يا ولدى أبوك مش عايز يروحنى البيت!

- عايزك تتعالجى هنا يا أمى.

- يا ولدى أنا يومى قرب!

- ما تقوليش كده يا أمى ربنا يديكى الصحة!

- فين هى الصحة أنا حاسة بنفسى!

- هتخفى وتبقى تمام يا حاجة. 

- أنا عايز أروح بيتى بس أبوك مش هيسبينى أروح إلا ميتة!

لم يمض على هذا الحوار شهر حتى عادت الحاجة فى صندوق خشبى كما تنبأت لنفسها!

منذ أن أبلغ حامد بوفاة الحاجة أم شوقى فى مستشفى أسيوط الجامعى، حدث ما لم يتوقعه أحد، لم يبكِ ولم يسقط ولم يستدع أى ذكريات، وبدا كأنها لم تكن فى حياته، أو كأنه وسدها سدرة منتهى روحه، فقط يقابلها فى الأحلام كل ليلة ويتسامران كما كان يحدث فى تلافيف السنين، يزف إليها أحدث الأخبار وتشاركه الضحكات الساطعة والهموم القابضة على القلب، والغد القلق على الأولاد والحنين إلى الغائبين إلى الأبد، والغائبين حتى حين، لكنه حينما يقبل الصباح يبدو كأنه لا يعرفها، ولا يحب أن يحاول أحد استحضار سيرتها، يغير الموضوع فورًا، وبحدة تشبه قطع الشجر فى مواسم جمع الحطب فى الصعيد!

سنوات متشابهة عاشها حامد فى أسيوط وحيدًا.. رفض حتى الإقامة مع أى من بناته الثلاث اللاتى تزوجن هناك، أو السفر إلى القاهرة للعيش مع أحد أولاده أو العودة إلى البلد، يحب الزيارة فقط لكن لا يطيل البقاء، تأتى واحدة من البنات كل يوم للشقة التى يعشق الجلوس فى شرفتها مساءً متأملًا المارة، وما جرى له فى النجوع الغربية.. وحده خط القطار القريب يقطع شريط الذكريات المتكررة التى يقوم بالفصل بينها بتأملات عميقة فى ما حدث، ما الصحيح؟ وما الخطأ؟ كثيرًا ما يتخيل أن القطار يمر فوق قضبان من الدم وباقى المشهد حواشٍ مثل حشائش أو مبانٍ عشوائية أو حقول الذرة.

كان يومًا لن تنساه النجوع الغربية والقرى التى حولها، فى الليلة السابقة قبل أن تغادر إحدى بناته منزله منهية تجهيز احتياجات البيت من تنظيف وطبخ لليوم التالى، أبلغها أن سيارة عبدالسلام الأجرة التى تتنقل بين النجوع وأسيوط، ستحمله صباحًا إلى النجوع، للاطمئنان على البيت والنخل، كما يفعل كل أسابيع عدة.

لكن ما حدث كان متاهة لا قرار لها، لم تأت سيارة عبدالسلام له، غير أنه غادر المنزل إلى الشارع، ليختفى، سألوا عليه فى كل مكان وكل من يقابلون وحتى أصدقاءه ومعارفه وأولاده فى القاهرة سألوهم، لكنه اختفى مخلفًا آلاف الحكايات والتخمينات.

هناك من تحدث عن الثأر والتربص، وهناك من تكلم عن حوادث سير، وهناك من أحكم تغليف الاختفاء بخيالات سخية.. من جعل منه مسيحًا آخر رُفع إلى السماء، وهناك من أمطر صوره الراحلة فى الذاكرة بأنهار من الدموع، ومن زرع حقولًا من الآلام والشكايات والأحزان وهناك من طارد غيابه باللعنات بل ونبتت أساطير فى جروح الطين ودروب التشتت، لكن الثابت أنه أصبح مثل نجم بعيد لا يغادر براح الذكريات الفسيح فى النجوع الغربية وما حولها، تحوم حول سيرته الحاضرة دومًا جيوش الأسئلة، تمامًا مثل ما كان فى حياته!

مقطع من رواية: دفاتر الطين والدم

أخبار ذات صلة

0 تعليق