يؤدي الخيال دورا بارزا في تشكيل السلوكيات والأفكار وطريقة الحياة، لذلك فإن التحكم فيه يوفر نوعا من الاستقلالية والتحكم في الإرادة وعدم تسليمها للآخر، وقد اعتبر الكثير من المفكرين في التاريخ الإسلامي الخيال ركيزة أساسية، فإن مبدأ الشك كما عند المعتزلة -خصيصا الجاحظ على سبيل المثال- مبدأ أساسي، والشك أوله الخيال، إذ أن الشك في شيء يأتي من متخيل الثغرة فيه أو إمكانية نقضه بغيره، فانظر إلى الجاحظ في مبحث مواضع الشك واليقين في الحيوان يقول: «لم يكن يقين قط حتى كان قبله شك، ولم ينتقل أحد عن اعتقاد إلى اعتقاد غيره حتى يكون بينهما حال شك»، وكذا الحال مع ابن عربي في حديثه عن نظريته المعرفية حول الخيال وربطه بالتصوف.
إن الخيال هو «مجموعة من العمليات الحسية والإدراكية والمعرفية وما وراء المعرفية والانفعالية النشطة التي تكوّن الصور الداخلية وتحولها وتحللها وتركبها وتنظمها في أشكال جديدة يجري تجسيدها بعد ذلك في أعمال وتشكيلات خارجية»، ويعتبر توماس هوبز أن الخيال هو «الحس المتدهور» عند الكائنات الحية في اليقظة والمنام. وقد استعمل العرب الخيال في شعرهم ونثرهم فأبدعوا فيه وأتقنوا.
وقد عبّر عمار علي حسن في كتابه الخيال السياسي عن مجالات توظيفه فذكر منها مجالات عديدة منها عبور الأزمات السياسية الذي يساعد الخيال فيه صانع القرار لعبور الأزمات من خلال طرق غير عقلانية، والخطط والاستراتيجيات التي يتم فيها استخدام الخيال للوصول إلى حالات متصورة يُمكن لها أن تحدث، لذلك يعرف المفكر البريطاني آيزيا برلين حسن التقدير بأنه قدرة على دمج «المعلومات الأولية الظرفية المتغيرة والمتشابكة متعددة الجوانب»، والحرب الذي يفيد فيها الخيال المحاربين والجيوش لتخطيط ميادين القتال، ومكافحة الإرهاب التي تكون فيها الضربات الاستباقية مهمة، ومواجهة الفساد التي تحتاج لإعمال الخيال للتنبؤ بمواطن الفساد المحتملة، والحس الأمني الذي يحتاج إعمالا مستمرا للخيال، وتفادي سلبيات الديموغرافيا السياسية من خلال التعرف عليها وتصورها ثم الحكم عليها، وتقدير المواقف من خلال «عملية مركبة تقوم على جمع وتحليل وربط بيانات جمعت بعناية»، والبحث عن المثل العليا والكمال الاجتماعي الذي كان مطروحا في التاريخ الفلسفي بشكل مستمر، ومعرفة الجماعات المتخيلة التي تنطلق من أساسات عرقية ودينية ولغوية وظرفية تاريخية، وأخيرا صناعة دور دولي من خلال معرفة المكانة في الساحة الدولية في ظل التصارع المستمر.
أدرك المستعمر منذ بدء رحلاته أهمية الخيال والتلاعب فيه، فوظفه بطريقة تخدم أهدافه، وحاول الولوج إليه بطرق مختلفة، منها اللغة والأفكار والكتابات والتفريق وغيرها. لذلك حتى بعد أن أخرج معسكراته، أبقى على خيالاته حول الناس ولم يأخذها معه، فبقي كثيرون يعتقدون عن أنفسهم ما يعتقده، فحتى القوة الناعمة التي نظّر لها جوزيف ناي تعتمد على الخيال بشكل كبير، واعتبار أن العالم يجب أن يكون «أبيض» بطريقة أو بأخرى، فانظر مثلا إلى تأثر العالم بالقيم الغربية -الأمريكية دون الحاجة للقهر العسكري. لكن قبل أن يصل السيناريو إلى هذه الحالة، فإنه عمل في البداية على التأثير في الخيال من خلال القهر العسكري، فقام الاستعمار الفرنسي في الجزائر مثلا بتفريق الناس وتشكيلهم في مجموعات أصغر وأكثر عشوائية ليقضي على القبلية، فنقل أناسا من جماعات معينة ليعيشوا مع جماعات أخرى وبعد أجيال طويلة، أصبح المرء لا يعرف لأي أصل قبلي ينتمي، وكذا فعل باللغة بعد أن أجبر الناس على التحدث بالفرنسية.
ينطبق هذا على الإنجليزية، فحتى اليوم، كثير من الجامعات في العالم العربي تُدرّس علومها باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، باعتبار أنها لغة العلم أو اللغة الأكثر عملية، على الرغم من أن هذه اللغة تصنع حائطا للدخول في أعمق نقاط الإبداع لدى الفرد، ويستمر هذا لينتقل إلى خارج الفصول الدراسية، فتجدها -أي اللغة الأجنبية- متحدَثٌ بها بين الأفراد، لاعتقادهم بأنها لغة عملية وعلمية، أو ربما تشير إلى التحضر والثقافة، وبتقصٍّ بسيط في الجامعات، ترى الكثير من الطلبة يتحدثون بلغة إنجليزية فيما بينهم على الرغم من أن المتحدث والمستمع عربيان من بيئات عربية، وقد يُعترض على هذا بأن اللغة وسيلة لإيصال المعنى وليست غاية في حد ذاتها، لكن الحقيقة أن اللغة حاملة أفكار، فالمتحدث بلغة قوم يسلك سلوكياتهم بطريقة أو بأخرى لأن عالمه يتشكل بحدود تلك اللغة وألفاظها ومعانيها، فعلى سبيل المثال، عند العربيّ القديم تجد لفظ «المروءة» حاضر، لذا فإنهم يتصفون به ويتفاخرون به، أما في كثير من اللغات الأجنبية فإن هذا اللفظ غير حاضر، لذا يفقد المتحدثون بها هذه السمة وإن حضرت ألفاظ أخرى قريبة منه، لكن ليس هو تحديدا.
إن أول ما يُمكن البدء به لتحرير الخيال هو تحرير العقول من اللغات الأخرى، وليس يرمي هذا لمنع الناس من التحدث بلغات أخرى، لكنه يرمي للعودة إلى اللغة الأم والالتفات لها وترسيخها في الذات والعقل والأفكار والسلوكيات ثم الانتقال لتعلم اللغات الأخرى باعتبارها مدخلا لفهم الآخر ودراسته.
كذلك تمت السيطرة على الخيال من خلال الإعلام، لا سيما الأفلام مثلا؛ فالمتتبع لها يجد أنه يتم تنميط العربي والعربية في صورة معينة، حتى تشكل عند كثيرين ممن ينتمون لنفس دائرة العرب نفس الصورة عن أنفسهم، فإما أن يعتقدوا بأن الأشخاص من دول معينة هم كذلك، أو أنهم بأنفسهم يتصرفون بنفس الطريقة التي تم تخيلهم بها، وتشكيل هذه الصورة عن العربي لم تخترعها الأفلام، تصف الدكتورة منال حسني في بحثها (صورة العربي في الرواية الفرنسية) أن وصف العربي في الروايات الفرنسية يندرج تحت ثلاث فئات رئيسة هي الاختلاف الديني، والمغايرة الإثنوغرافية، والمهمة الحضارية لفرنسا وواجبها نحو الإنسانية، لذلك تظهر هذه الصورة عن العربي بأنه همجي وشهواني ويحتاج إلى بطل مغوار ليخلصه من بؤسه البدائي ويطلعه على التمدن والحضارة، وقد حملت هذه الكتابات -الأدبية منها والفكرية- ذات الصورة حول العربي، بين رجل همجي، وامرأة إما راقصة في قصور الحكّام والأمراء أو متغطية بالسواد كلها. انتقلت هذه الصور من الكتابات إلى الإنتاج السينمائي، لذلك تجد في الأفلام حول الغزو الأمريكي للعراق مثلا ذات الصورة، شيطنة الضحية وأنسنة المحتل الغازي، وهذا ما حاولت إسرائيل فعله أيضا في دعايتها الموجهة للغرب والشرق على السواء، بأنهم مضطهدون ويدافعون «ببطولة وتضحية» عن أراضيهم ضد «الإرهابيين المعتدين المعادين للإنسانية والحضارة» في الإعلام التقليدي والجديد، فتتبع بسيط للمقاطع التي تنشرها الحسابات الإسرائيلية الرسمية وغير الرسمية تجد هذا المفهوم حاضرا بشكل أكبر، حتى اعتقد كثيرٌ من الجمهور المستهدف بصدق الرواية الإسرائيلية، وحتى أولئك الذين لم يعتقدوا بإنسانية المحتل فإن كثيرا منهم اعتقد بإرهابية المقاوم وشيطنته، وفي الجانب المقابل، تم تصدير سردية خطأ المقاومة وما حدث في السابع من أكتوبر على سبيل المثال، وأن على المقاوم أن يحسب حسابا دقيقا لتحركاته وانطلاقاته بدلًا من المجازفة والتهور. وبالحديث عن إسرائيل، فإن من التلاعب بالخيال أيضا هو تصدير وجود القومية اليهودية واللغة العبرية الجامعة، وعلى الرغم من أن جميع الدلائل التاريخية والواقعية المنطقية تشير لبطلان هذه السردية، إلا أن كثيرا من الإسرائيليين وغيرهم -حتى في العالم العربي- يصدقون بها.
لذلك يُمكن القول إن من مهمات تحرير الخيال أيضا، هو تحرير الصورة الذهنية حول الذات والآخر، وإعادة تشكيلها كما يقتضي الواقع لا كما يُريد المتحكم.
كل ما سبق ذكره يؤثر في المعتقدات والنظرة العامة حول العالم، فإن القوة الناعمة التي تستعملها الدول الكبرى للتأثير على الشعوب تعمل في إطار الخيال؛ فالليبرالية عندما أرادت أن تكون نظرية سياسية عالمية، عملت على هذه المسألة، فحاولت تصدير السلوكيات والأفكار الغربية إلى شعوب العالم الأخرى من خلال السياسة والثقافة والاقتصاد وغيرها، لكنها «فشلت» بتعبير باتريك دينين، لكن الخيالات الليبرالية لا تزال تسيطر على كثير من الشعوب وتجعلهم يتصرفون على غير ثقافتهم ويستوردون أفكارا من الخارج دون النظر إلى حاجة المجتمع إليها وتناسبه معها، ولذلك فإن من مهمات تحرير الخيال أيضا جعله ينطلق من الثقافة المجتمعية الداخلية ويبني تصوراته حول الكون بما يتناسب معه لا بما يتناسب مع غيره، لأنه في الوقت الذي يتخيل العالم بالطريقة التي يتصوره بها غيره يصبح أسيرا لجميع تقلبات هذا الغير فإن رضي اليوم بالفكرة الكذائية يرضى هو بها، وإن رضي غدا بنقيضها يأخذ حججه ويحاول إقناع نفسه والآخرين من مجتمعه بها أو ربما يفرضها عليهم، بدعوى أن الآخر المتحضر -خياليا- يؤمن بها ويأخذ بمنهجياتها، ويُمكن إيجاد هذا في الكثير من الأفكار المستوردة دون النظر إليها ونقدها وتمحيصها، وفي أحيان كثيرة دون الحاجة حتى لتشكيلها بما يتناسب مع واقعه الاجتماعي والسياسي.
في النهاية، إن تحرير الخيال لا يصلح الحالة الاجتماعية فحسب، بل حتى الحالة السياسية، فإن المقدمة الأولية التي تنطلق بأن السياسة تتشكل من المجتمع، تقضي بأن الانطلاق من الذات ومعرفة ما يتناسب معها، يجعل التنظير السياسي أيضا ينطلق من المشكلات الداخلية الحقيقية بدلا من المشكلات المتخيلة غير الموجودة.
0 تعليق