المذاق الأول - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

هل حمل آدم من الجنّة ذكْرى يرويها لأبنائه وأحفاده الذين لم يرَوْها ووُعِدُوا بها؟ كيف تعامل آدمُ مع الأشياء، ملمَسَها، تذوُّقها، منظرها، مشهدها، وهو نازلٌ من علياء كونِ الاستجابةِ إلى دنْيا كونِ الطلب والسعيِ؟ هل بقي آدمُ يتذكَّرُ من الجنَّة أطايبها، وعَسلها وطيْرَها، وحورَها، وأنهارها الخلاّبة، واستكانةَ الفكر، وهجْعَةَ الضمير، وطيب هوائها واعتدال مزاجها، ونظام كوْنها، وتحقُّق الرغبات المستحيلة فـيها؟ لقد كان آدمُ الحكَّاء الأوَّل وقاصّ البدايات، فإن عاقبه اللّه عزَّ وجلّ بالذاكرة الحيَّة، المحتفظة بالأشياء، فحتمًا سيحوِّل ذكرياته فـي حياة الجنّة إلى حكايات يتجمّع حولها أبناؤه وأحفاده، يسمعون قصص العالم العلويّ، ويتمتّعون بوصْف مذاق الأشياء وحسن مشاهدها، ولكن بأيَّة لغة سيُسمعهم آدم حكاياته؟ وهو الذي ما زال يتلمَّسُ الأشياء، هل كان آدمُ يعرفُ لغةً ما؟ لسانُ آدم تنازعتْهُ الأهواءُ، وكُلٌّ يدَّعيه وينسبه إليه، الفراعنة اجتهدوا فـي ذلك، وعمل المسيحيّون على ردّ لغة آدم إلى أصلٍ هو العبريّة، وهو معتَقَد القدّيس أغسطينوس، وكذا العرب فقد عملوا على الإقرار بأنّ الكلام الأوَّل، واللّسان الأوَّل هو العربيَّة، وبغضِّ النظر عن هذا وذاك، وعن أوليَّة اللّغة التي أجراها آدم فـي التواصل مع حوّاء، وهما يتراويان حكايات الجنّة، وما كان فـيها، ويتعاتبان من أمْر الحيَّة التي أوقعتهما فـي الغلط، ويستعيدان شريط الذكريات، وفـي تواصلهما مع أبنائهما والعمل على تقريب صورة الجنّة التي فارقاها لهم، فإنّ الأكيد أنّ آدم تكلَّم بلغةٍ ما، وقصَّ بما علَّمه اللّه من قدرةٍ على تسمية الأشياء، فآدم يحمل فـي ذاكرته صورةً عاشها عن جنَّة الخلود، وعن العالم العلويّ، وله صلاتٌ بالملائكة وبالجن وبالشيطان، وهو حاملٌ فـي ذهنه عالمًا مختلفًا عن كوْن الأرْض، يدعوه إلى حكايته وإلى وَصْفه، والعمل على تمثيله لبشرٍ من ذرِّيته لا يحملون المرجعيَّة ذاتها ولا الصُوَر المتذَكَّرة نفسها. آدم وحوَّاءُ، هما مخزن حكايات البدايات الأولى، وحَمَلة قصَّة البدْء، فلم يكن من اليسير على ثنائيِّ البدايات الأولى أن ينزلا إلى الأرض، وأن يعْمَلا على توفـيرِ حاجياتهما التي كانت تتحقّق بفعل «كُن»، أصبح الأكْل مدعاة إلى الجهدِ والبذْلِ والتدبُّر والاحتيال أحيانًا، ولولاَ أنَّ جبريل قد وهبهما بذْرةً من الجنّة، حبّات حنطة معدودات، زرعَاها وأجهدَا النفس والبدن فـي رعايتها وتحصيلها، لماتَا جُوعًا، وهما غير قادرين على الرعيِ كما الحيوان، وقد ذاقَا من أطايب الجنّة ما يُذهل العقول. انتقل آدم وحوَّاء من عالم النعيم والاسترخاء إلى عالم النكد والعمل، إلى عالم الفعل وردّ الفعل.

هل استطاعَ آدمُ وصاحبتُه أن ينسيَا عالم الخلود، فإن لم يكن، ولم يتمتَّعا بنعمة النسيان، فإنّ التذكُّر بابُ الحكاية، والمفارقة باعثة على الرواية، والحنين يدعو إلى تمثيل المُفارَق وإعادة إحيائه بأداة الحكاية. الحكايةُ كانت مع الإنسان الأوَّل، مع البدايات الأولى، مع آدم، أمَّا اللّسانُ فلا شأن لنا به، فليكن أعجميًّا أو سرياليًّا أو عبريًّا أو عربيًّا. حكايةُ الجنَّة الضّائعَة وعالم الملائكة وكون الخلود والبقاء سرا من أسرار آدم وحوّاء، وقصَّةٌ، كانَا أوَّل من أخرجها للوجود، حتَّى لا ينسيا مهدهما الأصليّ وكونَهما المرجع، لعلَّ حوّاء كانت تجلسُ فـي ظلمة اللّيل تُحاكي آدم تحت شجرة ما فـي أرض اللّه الواسعة، تصف له -استرجَاعًا- روْضَةً من رياض الجنَّة أو حوريَّةً حسناء سقط نصيفها وتمايلت على ضفافٍ أنهارٍ سائلةٍ، جاريةٍ. أبونا آدمُ هو مهد الحكاية الأولى ومرجع الاسترجاع القصصيّ، أمَّا هو ذاته فقد مثَّل حكايةَ مُعتَقَد تشابهت فـي روايتها الأديان السماويّة، وأجملتها وفصَّلتها حسب مقتضيات المقام الذي تُروَى فـيه. حكايات البدايات المتّصلة لدى كلّ الشعوب -تقريبًا- بالعامل الدينيّ، هي منبتٌ ثريٌّ غنيٌّ يدعو إلى التدبُّر فـي العقل الذي أنتجها وفصَّل سرْدها، آدم لم يكن حكّاءً فحسب، بل كان موضوع حكاية، أنجب من الأبناء ما اختُصِر فـي ثنائيّة الشرِّ والخير، فـي قابيل وهابيل، فـي قيام الحكاية على تنازع القُوّتين الدائمتين، هو التنازع الأوّل حدوثًا وقصصًا فـي كون الأرضِ، البدايةُ حكايةٌ تتأثّث بامرأةٍ هي دومًا عُنصرُ العطالة، وعلّة الشرّ، حوّاء فـي الذهنيَّة القصصيّة الدينيّة هي مدخل الشيطان، وهي وسواس آدم، وأخت هابيل هي سبب التنازع وعلّة التقاتل.

رواياتُ قتل قابيل يُمكن أن تُفتِّح شهيَّة سرد، فعمليَّة القتل وفقًا لابن كثير مختلف فـيها، وقيل: إنَّه إنما قتلَه بصخرة رماها على رأسِه وهو نائمٌ فشدخته. وقيل: بل خنقَه خنقًا شديدًا وعضًّا كما تفعلُ السِّباعُ فمات. نزول آدمُ، ورأسه يُناطح السماء ورجلاه فـي الأرض بسبب مديد طوله، إلى أنّ اختصره اللّه إلى ستّين ذراعًا، رواياتُ تحصيل الملبس والمأكل، والتفاعل مع عالم الأرض، كلّها نوى لحكاياتٍ ممكنة، تنتظرُ من يتناولها من عرب الروائيين. البدايات -كما النهايات- عوالم سرديّة استبق الذهن الشعبيّ الحكّاء تلقُّفها قبل علماء الرواية والحكاية وصاغها فـي حكايات شعبيّة فُرِضَت على الذهن العالم فرْضًا، وسادت وأثرت تراث البشريّة. فهل تُخلق روايةٌ يومًا ما فـي عالم العرب تُحسن استعادة آدم فـي اكتشافه للأشياء الأولى، فـي البدايات، فـي استرجاعه قصّة الجنّة، فـي التعبير عن منظوره للعالم العلوي وللعالم السفليّ؟ هل يُوجِد روائيّ يُعيد لآدم أنفه فـي اكتشاف الروائح فـي صدمة المشاهد الأرضيّة بعد مفارقة أصل الأشياء ومنبع الروائح ومنبت المشاهد، المرأة المثاليّة غاية الجمال، والطبيعة الفضلى ذات الوجه المعجز، والمأكل والمشرب، بعد مفارقة عالم بلا حكايات، بلا صراع، بلا تنازع، بلا بحث عن القوت وعن الملبس، ونزوله عالم الحكاية، حيث لكلّ فعل قصّة، تحصيل اللّباس قصّة، البحث عن الأكل قصّة؟ عالم القصّة متعبٌ هو الأرض.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق