أعلنت دار "الشروق" المصرية عن إصدارها ثلاثة أعمال دفعة واحدة للكاتب المصري الكبير محمد المخزنجي، وهو ما مثَّل مفاجأة سارة لمتابعيه. هذه الكتب هي "رائحة الشمس"، الذي يقدم فيه خمسين أقصوصة، ومجموعة "الموت يضحك"، وتجربة في المقال القصصي بعنوان "المجد للعواجيز والفخار".
جريدة "عمان" طرحت على المخزنجي سؤالاً يتعلق بسبب صدور الكتب الثلاثة في توقيت واحد فقال: "تلك الأعمال كانت معلقة بين نشر جزئي ولا نشر، ووجب تحريرها لإفساح الطريق لقادم مختلف". يفسِّر: "كتاب "الموت يضحك" نُشِر مرة واحدة في طبعة سيئة جداً منذ 36 عاماً، وكنت أرفض نشره، لأنه يحتاج إلى تدقيق وتحرير، فقد طُبِع بأخطاء كثيرة، وظل معلقاً كل هذه الأعوام. لقد صدر بشكل سيئ صدمني للغاية وأصابني باليأس في ظروف صعبة، اختبرتها أثناء وجودي في الاتحاد السوفييتي، وكان ينبغي فضُّ هذا الاشتباك، حتى أشعر بالراحة. هذه الكتب كانت أعمالاً معلقة ما بين تشرذم النشر أو اللانشر، وطال بها الوقت وآن أن يُحسم أمرُها، وأنا أشبِّه المسألة بإخلاء الساحة، ليس إيذاناً بالانصراف، بل إفساحاً لقادمٍ جديد مختلف بدأتُ كتابته فعلاً".
لدى الدكتور المخزنجي تجارب متعددة في القصة الطويلة الجذَّابة، لكنه في "رائحة الشمس" يقدِّم الأقاصيص. يعلق: "لم أفصل بين الاثنتين. أقصد أني أكتب القصة الطويلة والقصيرة بالتوازي، ولا أخصِّص وقتاً محدداً لكلٍّ منهما. التجربة تفرض شكلها ووقتها. أنا أؤمن بمسألة النسق، وهذا يجعلني أجمع القصص الطويلة معاً والموجزة معاً، ولا أمزج بينهما في مجموعاتي، أزعم أن كتاب "الموت يضحك" كان إعلاناً عن مساهمة جديدة لي، مختلفة عن الإيجاز القصصي الذي اشتهرت به أو اشتهر بي".
أيهما أصعب في الكتابة.. القصة أم الأقصوصة؟ أسأل ويجيب: "القصص الموجزة غالباً لا أكتبها على ورق. أصيغها جملةً جملةً في دماغي حتى أحفظها. هناك اثنان اشتهرا بذلك. يحيى الطاهر عبد الله وأنا، يوسف إدريس صنع هذا أيضاً في قصة واحدة كتبها في رأسه أثناء وجوده في مؤتمر أدبي. إنني أكتب القصة داخلي، ولذلك تخرج مني كأنها أنشودة أو أغنية، وأقرب إلى الحالة الشعرية، إنما القصة الطويلة فيها تفكير، وتأنٍ. وقوف واستئناف. تخطيط، بناء وإعادة بناء، طرق كبيرة وأزقة، ولذلك فإنهما مختلفان كثيراً".
اعتُقِل المخزنجي سياسياً لعدة مرات في ديسمبر 1972 ويناير 1977 وديسمبر 1981، وقد عُرِف عن السجناء السياسيين أنهم يتدرَّبون على تقوية الذاكرة، إذ كانوا يلعبون الشطرنج الغيابي، بمعنى أنه لا توجد رقعة، وإنما الرقعة في رأسي اللاعبيْن المتبارييْن، وكلٌّ منهما ينطق بحركة القطعة حتى ينتهي الدور بفوز أحدهما، فهل كان هناك دورٌ للمعتقل في تقوية ذاكرته لدرجة حفظه القصص؟ يقول: " مسألة كتابة الأقاصيص في الرأس وقراءتها من الذاكرة سبقت مرات اعتقالي، وفي الزنازين كنا نتشارك نحن المسجونين تقديم فقرات في إذاعة حيَّة عبر النوافذ الصغيرة بأعلى الأبواب الموصدة. كل واحد منا يحاول أن يصل إلى نافذة الزنزانة ويقدم فقرته بصوت عالٍ ليسمعه بقية المساجين. وكنت أقدم في كل مرة قصة بشكل شفاهي، أقرؤها من ذاكرتي، وبدقةٍ تستبدلُ النقطة والفاصلة وعلامة التعجب أو علامة الاستفهام بوقفاتٍ تلونها نبرة الصوت. وأذكر أن علي كلفت، شقيق الكاتب خليل كلفت كان في زنزانة مقابلة لزنزانتي في معتقل المرج، ورأيته يتسلق ليطل من النافذة الصغيرة بأعلى باب زنزانته ليتأكد أنني أُلقي القصة من الذاكرة وليس من ورق. كان لا يصدق. وفي كل الحبسات التي مررتُ بها كان دوري في مسامرات السجن أن أقرأ قصصي غيباً، وقد ذكر هذا المهندس جلال مقلد في كتابٍ قيد النشر عن حبسة شتاء 72ــــ 73. ولدى الكثيرين كنت أبدو شارداً دوماً. أفكر في صفِّ الكلمة إلى جوار الكلمة، والعبارة إلى جوار العبارة حتى تكتمل القصة. هل هذا يجيب عن سؤالك؟!".
وبخصوص تجربته مع المقال القصصي في كتاب "المجد للعواجيز والفخار" يقول: "القصة المقالية نموذج موجود في الأدب السوفييتي تحت مسمى "أوتشيرك"، حيث يتم المزج بين القصة والرأي والمعلومة، ويُدمَج السرد مع المعرفة، وبذلك يكون هناك تجاور لسردية القص ومنطق المقال. لم أكتب هذا النوع على سبيل التقليد لأنني كتبته قبل سفري إلى الاتحاد السوفييتي، وإنما لجأت إليه لأنني وجدت نفسي منجذباً إلى اتجاهات معرفية تخصُّ العلوم والفلسفة وعلم النفس وأردت أن أُخرِجها في قالب شبه قصصي".
لزمن طويل قدَّم المخزنجي عشرات الريبورتاجات الصحفية في مجلة "العربي" الكويتية، حيث رسم صوراً بديعة لعشرات الأماكن والثقافات في العالم شرقاً وغرباً، بلغة أدبية، فهل أسهمت خبرته تلك في مقالاته القصصية؟ يجيب: "نعم. الصحافة استفادت من فن القصة عندي. وعند غيري، وبالتالي أفادت التحقيق، وأنا كتبت هذا في مقدمة كتاب "المجد للعواجيز والفخار" المكرَّس لفن المقال، وهي مقدمة طويلة. تحدثت فيها عن لمحة القص في الكتابة غير القصصية، وهذه اللمحة تتزايد مع التقدم في السن، ومرجعها الرغبة في الحكي، والذي أعتبره نوعاً من ترميم الذاكرة وإرواء الحنين إلى ما كان ونقد ما هو كائن، وأعتقد أن القادم عندي سيمضي في هذا السياق القصصي".
أسأله أخيراً: كرَّست حياتك لفن القصة.. هل تنظر إلى ما حققته فيها برضا؟ فيقول: "القصة أحد صنوف الكتابة. المقال أيضاً فن مهم. والتحقيق المصوَّر فن مهم كالقصة، ولذلك أحاول هنا أن أجيب خارج ما تم التكريس له وهو أنني أركز فقط على القصة، لأن هذا يتجاهل الأنواع الأخرى التي أحبُّها وأعتز بها خاصة مقالات ما يسمى "الثقافة الثالثة" التي تجمع ثقافة العلم والأداء الأدبي، ولديَّ مما نشرته في الصحافة من هذا السياق ما يشكِّل موسوعة كبيرة تحتاج لإعداد دقيق وتحرير للصور، وهو مشروع ضخم وعزيز عليَّ جداً ويحتاج لفريق عمل ومغامرة نشر ليست هينة أبداً، لهذا أتريث بشأنها كثيراً".
0 تعليق