فجر الرئيس الأمريكي ترامب الأربعاء مفاجأة من العيار الثقيل ضربت كل القيم والمبادئ السياسية الدولية حينما طرح فكرة «الاستيلاء» على قطاع غزة بعد تهجير وتشريد سكانها وتحويلها إلى «ريفييرا الشرق الأوسط».. لكن الاستيلاء هذه المرة ليس من قبل أو لصالح إسرائيل وإنما من أمريكا ولصالحها إلى حد جعلت رئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه يشعر بالغرابة وإن قال إن الأمر سيكون «حدثا تاريخيا». وظهر ترامب الذي بدا منفصلا عن الواقع وكأنه مطور عقاري يحمل فكرا إمبرياليا يعود إلى القرن التاسع عشر!
وهذا الطرح الإمبريالي، الغريب، يعزز أطروحات سابقة قالها ترامب في الأسابيع الماضية عندما تحدث عن شراء جرينلاند وضم كندا واستعادة قناة بنما وإعادة تسمية خليج المكسيك إضافة إلى توجهاته الإمبريالية المنطلقة من الفكر الاقتصادي.
وخالف ترامب في طرحه الكثير من الأفكار التي تبناها سواء في فترته الرئاسية الأولى أو خلال حملته الانتخابية التي استبعد فيها أن تخوض بلاده أي حرب جديدة وقدم نفسه بوصفه رجل سلام وإنْ كان على الطريقة الأمريكية التي لا ترى السلام إلا من زاوية خدمة إسرائيل. والغريب أن ترامب كان يتحدث بكثير من الثقة، التي تؤكد انفصاله الحقيقي عن الواقع، حينما أصر أن كل من مصر والأردن ستوافقان على خطة تهجير الشعب الفلسطيني وهذا يؤكد أن الرجل ينظر من منظور المطور العقاري وليس من منظور رجل سياسة يرأس أقوى دولة في العالم، والراعية الأولى للنظام العالمي رغم أن الرجل لا يبدو أنه في وارد الحفاظ على هذا النظام الذي يعمل بالفعل على هدمه وإدارة العالم برؤية تقوم على معيار القوة الواحدة دون أي اعتبار للقوانين والتشريعات أو حتى فكرة الديمقراطية التي يمقتها الرجل بشكل كامل.
لكن ترامب الذي يحمل أمل استكمال مشروع الاتفاقيات الإبراهيمية التي بدأت في آخر فترته الرئاسية الأولى لا يبدو أنه يعي أن هذا الطرح يفسد مشروعه الفاسد من أساسه وأنه يعقد الأمر على بعض الدول التي بدأها أنها على وشك الموافقة على فكرة التطبيع بل إنه يعيد طرح مثل هذه المشاريع التطبيعية التي بدأت من كامب ديفيد على طاولة البحث الشعبي إن لم يكن بحث القيادات العربية التي لم ترفي التطبيع أي مكاسب لا سياسية ولا اقتصادية ولا أمنية كما كانت تريد إقناع نفسها في مرحلة من مراحل التاريخ العربي.
ولا يبدو ترامب أيضا معنيا بتبعات حديثة القانونية أو السياسية أو حتى اللوجستية.. فلا يمكن أن تحدث أي عملية تهجير للشعب الفلسطيني في قطاع غزة أو حتى في الضفة العربية بمعزل عن موافقة مصر والأردن بشكل أساسي. وبعيدا عن الرأي الشعبي في العالم العربي الرافض لهذا الطرح فإن حتى القيادات السياسية في كل من مصر والأردن لا يمكن لهما إقرارها هذا المشروع تحت أي ضغط أمريكي لأن لمثل هذه الموافقة تبعات قانونية وشعبية وربما يصل الأمر إلى وضع شرعية هذه القيادات على محك شعوبها.
وليس أمام الرئيس الأمريكي إلا العودة إلى المؤسسات الأمريكية وبشكل خاص مؤسسة الخارجية وكذلك المؤسسة الأمنية فهي الأقدر على فهم تبعات تصريحات ترامب وأثرها على علاقة أمريكا بأصدقائها في منطقة الشرق الأوسط.. وهي التي تملك أيضا سجلا تاريخيا للقضية الفلسطينية ومساراتها منذ أكثر من 75 عاما وما هو الممكن وغير الممكن في كل الأطروحات التي طرحت على مدى هذا الخط الزمني.
0 تعليق