القفز بين المربعات - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

كنت فـي الأسبوع الماضي، أشرت فـي مقالتي «رحلة الوعي» (صحيفة عُمان، 19 فبراير) ــ فـي معرض حديثي عن النسخة العربية (الجديدة) من رواية الكاتب الألماني الكبير هرمان هيسه، «سيدهارتا» ــ إلى «ظاهرة» إعادة ترجمة بعض الكتب التي سبق لها أن نُقلت إلى العربية سابقا، لكنني ربطتها بكون إعادة الترجمة عن اللغة الأصلية قد تضيف الكثير إلى معرفتنا، التي سبق أن كوناها، حين يكون الكتاب نُقل لأول مرة عن لغة وسيطة.

أريد أن أشير اليوم، إلى أمر آخر، يمت بصلة إلى ذلك: أي حين يُعاد ترجمة الكتاب عينه، وعن اللغة الأصلية، لمرات عدّة، ما يطرح علينا تساؤلا حول «جدية» هذا العمل، أو لنقل حول السبب الذي يدفعنا إلى القيام بهذه الترجمة الأخرى، بينما يكون العمل السابق مستوفـيًا الشروط. الفكرة الأخرى التي تشدّني، كيف يمكن إعادة ترجمة عمل حين لا يكون قد وقع بعد فـي إطار الملكية الفكرية العامة، أي حين لم يمض بعد على وفاة كاتبه خمسين سنة (وفـي بعض البلدان 70 سنة) ما يجعلنا نطرح فكرة حقوق المؤلف. لذلك نحن أمام واقعتين: إما أن بعض الدور لا تحصل على الحقوق وتعمل على قرصنة الترجمة، وإما ــ إن كانت حصلت عليها ــ أنها بذلك تصرف جهدا كان من الأفضل أن توظفه فـي كتاب آخر، وأقصد ما رميت إليه فـي مقالتي المشار إليها: ثمة نقص كبير فـي العناوين المترجمة فـي المكتبة العربية، لذا كان من الأجدر فـيما لو صار إلى ترجمة عنوان آخر.

أسوق كلامي هذا وأنا أمام الترجمة الجديدة التي صدرت مؤخرا لكتاب «الحجلة» للروائي الأرجنتيني الكبير خوليو كورتاثار (الذي أضعه، شخصيا، فـي طليعة كتّاب «أمريكا اللاتينية») عن «دار ممدوح عدوان» و«منشورات سرد» فـي دمشق وقد نقلها عن الإسبانية أحمد حسان، وهي الرواية التي يمكن أن نجد لها بالعربية ترجمات أخرى: ترجمة نايف أبو كرم (منشورات «دار علاء الدين» ــ دمشق، الطبعة الثانية 2009) وترجمة علي إبراهيم علي منوفـي (عن «المجلس الأعلى للثقافة» فـي مصر، سلسلة «المشروع القومي للترجمة»، العام 2000) وهي الترجمة التي تستعيدها «منشورات الجمل» العام 2020). ومع هذه الأسئلة، لا أخفـي زياراتي المتكررة إلى هذا الكتاب الذي يبدو بالنسبة إليّ بمثابة «عاصمة» علينا زيارتها مرات عدة فـي هذه الحياة.

«الحجلة» (لعبة القفز بين المربعات)، هو واحد من الكتب التي يعود إليها المرء مرارا وتكرارا (على الأقل أتحدث عن تجربة شخصية)، حاملا دهشته معه، فـي كل مرة يقرأه فـيها، وربما يشعر بالدهشة أكثر ممّا يزور بلدا ما. فشخصياته، تقع ما بين السماء والأرض، وهي مُعرضة لتأثيرات المدّ والجزر، لا تحرث ولا تزرع ولا تحصد: إنها تسافر لاكتشاف نهايات العالم، وهذا العالم هو حياتنا، وهي تبحر حولنا. كل شيء، فـي هذه التحفة الأدبية الكبيرة، يتحرك فـي انعكاسه الرومانسي، حيث يتحول الخيال إلى بحث، والرواية إلى مقالة، وضربة من حكمة الزن إلى ضحك، والبطل هوراسيو أوليفـيرا إلى نظيره، المسافر، أحدهما فـي باريس، والآخر فـي بوينس آيرس. وأمام ذلك كله، ثمة سؤال: هل أن موسيقى الجاز (الحاضرة بقوة فـي الرواية، حيث كان الكاتب مفتونا بها) والأصدقاء والحب المجنون لامرأة، العرافة، وفـي أخرى، هي نفس المرأة، تاليتا، وهل أن الشعر، هل كل هذه الأمور مجتمعة تنقذ أوليفـيرا من فشل العالم؟

أسئلة تقف أمامنا فـي هذا الرواية، ربما لأن «ماريل» (عنوان الكتاب بالإسبانية) توفر عدة مداخل ومخارج. بل أنها أيضا تقترح دليل تعليمات كي نختار بين قراءة أولى مستمرة، كأنها لفافة «مخطوطة صينية» تتكشف أمامنا، وبين قراءة ثانية نشطة، نتمكن من خلالها القفز من مربع إلى مربع حتى ننجز دورة حول العالم بشكل غير عادي. فسيد هذه اللعبة هو موريللي، والكاتب الذي يشبهه هو خوليو كورتازار، الذي يحاول ألا يخون أي شيء عندما يكتب، ولهذا السبب يبدأ «بتحرير النثر من شيخوخته»، «لإلغاء كتابته» كما يقول. فمن شباب مجهول وحرية، تأخذنا «الحجلة» فـي الوقت عينه تقريبًا إلى «الجنة» حيث يمكننا الراحة وإلى «الجحيم» حيث يبدأ كل شيء من جديد.

ثمة تحدٍ رائع لا بدّ أن نخوضه ونحن ندخل إلى قلب عمل كورتاثار هذا، أوله أن القارئ يشعر بأنه «بطل» الكتاب، ليحس فعلا بأنه قريب جدا من «متاهة الموت»، هذه، الشهيرة، أو قد يكون من غيرها، من مغامرات الذئب الوحيد... باستثناء أن هذا لا يحتوي على أي قواعد راسخة. ما أريد قوله، أن على القارئ أن يختار طريقة قراءته إذا ما ظهرت فكرة الموت أمامه، أي تلك النهاية المفاجئة: القراءة الخطيّة، العادية، كأي رواية أخرى، أو تلك القراءة التي تتبع مراجعها وفقا لأهواء الفوضى الظاهرة. فالمعروف أن رواية «الحجلة»، تقرأ وفق تقطيعات خاصة، وضعها المؤلف، كي يقدم لنا اقتراحات عدة فـي قراءة الكتاب.

حين صدرت الرواية، فـي ستينيات القرن الماضي (فـي العام 1963)، بدا العمل على قدر كبير من الابتكار، الذي جاء ليلبي، بسخاء غير مسبوق، ذوق عصره الذي كان يميل إلى فن الكولاج، وإلى الانقطاع السردي، وإلى الانفتاح على حالات شتى، وإلى توسيع القصة إلى قصص فرعية متعددة. كذلك بدت الرواية وكأنها تستعيد النظرة السريالية التي ترفع الصُدفة إلى مرتبة القدر. إذ أن البُعد المرح فـي «الحجلة» ــ والذي تمّ حثه بالفعل من خلال العنوان، ثم من خلال اللغات المبتكرة («الغليجليكو» التي يتحدث بها البطل) ومن خلال النص اللغز الذي تمّت دعوة القارئ إلى بنائه ــ ينتج أدبًا تأمليًا وطليعيًا يحمل عاليًا متعة القراءة الخالصة، وذلك بفضل الفكاهة الحاضرة جدًا والفخ النخبوي الذي يتم تجنبه دائمًا، وهذا ما يكشفه هذا التحيز نحو اللعب عن رغبة فـي التكيف مع اختراعات الكتابة البلاستيكية التي حكم كورتازار بأنها من المرجح أن تقوض المطابقة البرجوازية.

تقع هذه الرواية، فـي نمط الارتباط السريالي والتوسع الميكانيكي؛ إنها استعارة للكون، لذلك هي رواية كاملة لا نهائية تدعو القارئ إلى إحداث ثورة فـي عادات القراءة لديه، إذ إن كورتاثار، أراد وقبل أي شيء آخر أن يقدم رواية تجريبية وفريدة، وكأنها محاولة لتفكيك الرواية التقليدية التي اعتدنا عليها.

هل لذلك يشعر من يقرأها بهذه الرغبة فـي أن يترجمها ولو كان ذلك للمرة العاشرة؟

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق