يتحدث البعض عن الفوائد الصحية التي يجنيها الإنسان من شهر رمضان، ويتحدث عنها الكثير من العلماء، ويعتبرونها جانبًا مهمًا في الصيام، لكن المسلم يراه جانبًا تعبديًا محضًا، فهل يمكن أن يلتفت إلى الجانب الصحي، فيكون هناك نوع من التوازن بين الجانب التعبدي المحض وبين الفوائد الأخرى؟
المسلم يرى أن هذه العبادة هي جانب تعبدي محض، وهذا حسن ومحمود، وهكذا ينبغي أن يكون حال المسلم، فالعبادات لا تكون إلا خالصة لله تبارك وتعالى، والحديث الذي تقدم ذكره: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه»، وربنا تبارك وتعالى يقول في كتابه: «ألا لله الدين الخالص»، ويقول: «وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين».
أما عن إعادة صياغة السؤال: فهل يمكن أن يتوخى المسلم المنافع الصحية من وراء امتثاله لأمر الله تبارك وتعالى بالصيام؟ لا يظهر مانع من ذلك، إذا كان مما يتوخاه أيضًا، ويتطلع إليه، مع إيمانه ويقينه وطمأنينته بأن الله تبارك وتعالى أودع في الصيام نفسه منافع صحية، فهو يتوخى ما أودعه الله عز وجل في فريضة الصيام، وليس العكس، أي أنه لا يصوم طلبًا للمنافع الصحية ثم يجعل منها نصيبًا للعبادة، بل العبادة خالصة لوجه الله تبارك وتعالى، ومع ذلك، لا بأس أن يأمل المسلم في تحصيل المنافع البدنية التي تحصل له جراء امتثاله لأمر الله تبارك وتعالى.
هناك أثر ورد في هذا المعنى، وإن كان فيه خلاف عند المحدثين، وهو حديث: «صوموا تصحوا»، وقد ورد عند الإمام الربيع بلاغًا عن طريق أبي عبيدة، وبعض المحدثين يرون أن معناه صحيح؛ لأنه يتناسب مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه»، فهو يندرج ضمن هذا الباب.
أما من يتوخى تقليل الطعام طلبًا للمنافع الصحية التي أرشد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا حرج عليه، لكن لا ينبغي أن يكون الدافع الأساسي هو ابتغاء المنافع الصحية بحيث تختلط بالعبادة، فالعبادة في أصلها وغايتها خالصة لله تبارك وتعالى، ولكن مما يحببها إلى المسلم، ويعينه على الصبر على مشقتها، إدراكه أن وراءها منافع أودعها الله تبارك وتعالى في بدنه ونفسه وعقله.
وهذه المنافع لا تقتصر على ما اكتشفه العلم اليوم، بل قد يكتشف العلماء لاحقًا فوائد نفسية أو عقلية جديدة للصيام، أو ربما اكتشف بعضها ولم نطلع عليها بعد، فكلها مما أودعه الله تبارك وتعالى في هذه الفريضة.
لذلك، لا حرج على المسلم أن تكون هذه الفوائد حاضرة في ذهنه، لا على سبيل التعبد، أو على أنها جزء من نية الصيام، وإنما على سبيل استحضار ما كتبه الله تبارك وتعالى من منافع فيها، وأن يكون ذلك دافعًا له للالتزام بهذه العبادة العظيمة، والاعتزاز بانتسابه لهذا الدين العظيم، والله تعالى أعلم.
في قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا كُتِبَ عليكم الصيام كما كُتِبَ على الذين من قبلكم لعلَّكم تتقون»، كيف كان صيام من قبلنا؟ وما الحكمة من تشريع الصيام كما فُرض على الأمة السابقة؟ وما الفرق بين «كُتِبَ» و«فُرِضَ»؟ هل هناك فرق دلالي؟
إذن، عدة مسائل هنا، أما عن كيف كان يصوم من كان قبلنا؟ فهذا لم يقم عليه دليل، لكنهم كانوا يصومون بنص هذه الآية الكريمة «كما كُتِبَ على الذين من قبلكم»، أي فُرِضَ عليهم الصيام، ووجه الشبه هنا هو في الماهية، في الفرض فقط، لا في الماهية ولا في الأحكام التفصيلية، إذ لا يلزم من المشابهة، يعني كما كُتِبَ على الذين من قبلكم، هذه مشابهة، ولكن لا يلزم من المشابهة أن تكون في جميع الأوجه، يكفي أن تكون في وجه من الوجوه، وهذا الوجه هو الفرض والإلزام، أن الأمم قبلنا، ممن أنزل الله تعالى عليهم شرائع، قد أُمِروا بالصيام أيضًا، أما كيف؟ ومتى؟ فهذا يحتاج إلى دليل، نجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أهل الجاهلية، كما في حديث السيدة عائشة، كانوا يصومون يوم عاشوراء، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصومه، ثم لما هاجر أيضًا عليه الصلاة والسلام، وجد اليهود يصومونه، فسألهم فقالوا: «هذا يوم نجَّى الله تعالى فيه موسى من فرعون»، فنحن نصومه، فقال عليه الصلاة والسلام: «نحن أحق بموسى منكم»، فصامه عليه الصلاة والسلام، الآن، هو لم يسألهم عن ابتداء صيامهم، وإنما سألهم عن سبب صيامهم هم، وإلا فقد كان أهل مكة يعرفون صيام عاشوراء، وكانوا يصومونه وهم أهل جاهلية، وهذا من بقايا الحنيفية، فسأل اليهود عن سبب صيامهم، فبينوا له ذلك، فبين لهم عليه الصلاة والسلام أنهم أحق بموسى، أي أن أمته، عليه الصلاة والسلام، وأمته أحق بموسى منهم، فصامه، ثم واصل صيامه إلى أن فُرِضَ شهر الصيام، ثم اختلف بعد ذلك، فالحاصل أن وجوب صوم يوم عاشوراء قد ارتفع، فالموضع الشاهد هنا أنهم كانوا يصومون يوم عاشوراء، هذا كان صيامًا عند أهل الجاهلية، وكان عند اليهود، وفي بعض الروايات أن اليهود والنصارى كانوا أيضًا يصومون، إذن، من حيث الفرض، فقد فُرِضَ على الأمم قبلنا.
أما التفاصيل، فنعم، من حيث الماهية والتفاصيل، فهذا يعني مجال بحث بعض من تتبع كتب اليهود والنصارى من التوراة والإنجيل، فقد ذكروا أنواعًا من الصيام موجودة عندهم، منها ما هو صيام بالامتناع عن الأكل والشرب، كما هو عندنا، ومنها أنواع أخرى، ولعل بعض الأنواع مما حرفوه، وهذا مما يعسر الوصول إليه، لكن الحاصل أنه، بما دلت عليه الآية الكريمة، فقد فُرِضَ على الأمم قبلنا، هذا ما يتعلق ببعض المسائل التي سأل عنها الآن.
ورد في القصاص «كُتِبَ عليكم القصاص في القتلى»، وورد «كُتِبَ عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية»، وورد «كُتِبَ عليكم القتال وهو كره لكم»، وورد: «ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكًا نقاتل في سبيل الله» إلى أن قال: «هل عسيتم إن كُتِبَ عليكم القتال ألا تقاتلوا»، وورد في هذه الآية الكريمة: «يا أيها الذين آمنوا كُتِبَ عليكم الصيام»، هذه الأحكام، أولًا، يمكن أن نقول إن هذه خاصة بسورة البقرة، وأنها من الخصائص الفنية البيانية لسورة البقرة.
وأنا أعطي مفتاحًا لهذه القضية، وهي أن سور القرآن الكريم -وقد تحدثنا عنها قديمًا- لكل سورة منها طابع لغوي فني يتناسب مع مقاصدها وأغراضها، ويتناسب مع أسباب نزولها، ويتناسب مع موضوعاتها التي وردت فيها، لكن هذا محل بحث طويل، وإنما هي إشارة فقط، إذا أخذنا من هذا ونظرنا في هذه المواضع والأحكام، سنجد أن هذه الأحكام التي فيها قدر من الإلزام، وهذا الإلزام فيه نوع من المشقة، أي فيها مشقة، فيها تكليف ظاهر، سنجد مع هذا أيضًا أنها مما عُرِفَت لدى الأمم السابقة، فالقصاص كان معروفًا، والوصية كانت معروفة، والقتال كان معروفًا، والصيام كان معروفًا.
إذن، هذا هو الذي يمكن أن يكون مشتركًا في استعمال هذه الصيغة، وهو أن الأمر بالصيام يشترك مع الأحكام التي وردت بنفس هذه الصيغة في أنه كان معروفًا لدى الأمم السابقة قبلنا، والخطاب به جاء في هذا السياق لأجل تهيئة المخاطبين من هذه الأمة لتلقي هذا الأمر الذي فيه تكليف وإلزام وتحمل مشقة، لتتهيأ النفوس وتتوطن على قبول هذا الأمر.
0 تعليق