هل العالم مستعد لعودة الدين؟ - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

ترجمة: أحمد شافعي

لم يرج الإلحاد في الحياة الغربية حينما تصدرت الكتابات المناهضة للرب بأقلام أمثال ريتشارد دوكنز وكرستوفر هيتشنز قوائم أكثر الكتب مبيعا بسبب ظهور مباغت لحجج جديدة وعبقرية على عدم وجود الرب، ولكن العالم شهد ذلك الرواج لأن أحداثا معينة وقعت ولأن قوى أعمق هيأت العصر لعدم الإيمان، ولأن الإنترنت في بواكيره كان بمقام وسيلة جديدة لنقل الشك، ولأن الحادي عشر من سبتمبر روج مخاطر الأصولية الدينية، ولأن أزمة الانتهاكات الجنسية في الكنيسة الكاثوليكية قوضت أحصن حصون المسيحية النظامية في الغرب، ولأن تراجع العصر الرقمي عن السلطة والمؤسسات ضرب المؤسسات الدينية أول ما ضرب.

وليس الغرض من سرد هذه القوى وأمثالها هو التقليل من تأثير دوكنز ومن شابهه. فمن خلال انتهاز الفرصة، دفع القائلون بعدم وجود الرب العلمنة وإبطال حضور المسيحية إلى أبعد مما كانوا ليبلغوه لولا تلك الفرصة. إنما الغرض هو تأكيد أن النجاح في معركة الأفكار غالبا ما يتحقق حينما يكون العالم مهيأ للمضي في طريقك، وحينما تكون الجماهير فجأة مستعدة لإيلاء أفكارك آذانها على نحو أكبر وأكمل من ذي قبل.

ومثل هذه الفرصة سانحة اليوم للكتاب الدينيين. لأن فكرة الملاحدة الجدد القائلة بأن إضعاف الدين المنظم كفيل بأن يجعل العالم أكثر عقلانية وأقل قَبَلية تبدو أشد عبثية في عام 2024 مما كانت عليه في عام 2006، ولأن القلق الوجودي والسأم الحضاري -وليس التفاؤلية العقلانية والطموح الإنسانوي- هما المزاج المهيمن على الليبرالية العلمانية في أيامنا هذه، ولأن تراجع الانضمام إلى المؤسسات الدينية وتضاؤل الممارسة الدينية باتا يعدان على نحو متزايد مشكلة اجتماعية لا وثبة عظيمة إلى الأمام، ولأن من نشأوا بلا إيمان يبحثون الآن عن المعنى في المخدرات والتنجيم والأطباق الطائرة، ولأن صعود اللائيين the Nones -أي الأمريكيين غير التابعين لأي دين- قد توقف في الآونة الأخيرة.

لكل ذلك يبدو العالم اليوم مهيأ لحجج الدين مثلما كان مهيأ للملاحدة الجدد قبل عشرين عاما. لكن السؤال هو هل يستطيع المتدينون أن يستعيدوا أرضية ثقافية حققية -وخاصة في قلب العلمانية أي في أوساط الإنتلجنسيا الغربية- بدلا من الاكتفاء بإثارة حنين مبهم إلى الإيمان.

إنه لأمر مختلف تماما عن حمل غير المؤمنين على قول كلمات طيبة في حق المسيحية «الثقافية» أو الإقرار بمنفعة اجتماعية لارتياد الكنائس. لأن التحدي يتمثل في المضي إلى أبعد من ذلك، وهو إقناع المعاصرين القلقين بأن الدين أكثر من محض منفعة برجماتية، ومن محض أمل بائس، وبأن الإطار الديني في حقيقة الأمر يساعد على فهم الواقع أكثر من البديل الديني القح.

وإنني أخاطر بخوض هذه اللعبة، لأنني سوف أطرح محاولتي في الإقناع خلال العام القادم [إذ يصدر له كتاب بعنوان «آمِنوا» أو «BELIEVE» - المترجم]. لكن الأشهر الثلاثة الماضية شهدت صدور ثلاثة كتب دينية تخوض غمار هذا النقاش منادية فلسفيا وعلميا وتجريبيا بتبني منظور ديني لرؤية العالم.

تأتي الرؤية الفلسفية من الفيلسوف واللاهوتي واسع الاطلاع ديفيد بنتلي هارت الذي قد يتجاوز ما نسيه من الكتابات الدينية الهندية الغامضة أكثر ما أعرفه أنا عن أسرتي. وكتابه الجديد «كل الأشياء مليئة بالآلهة: غوامض العقل والحياة» يمثل تتويجا لعقود من مجادلة الملاحدة الجدد وجميع الروايات الاختزالية للوعي الإنساني.

ولكونه تتويجا، فقد لا يكون هذا الكتاب بالضرورة أفضل بداية لقارئ مبتدئ، وتبقى ميزة البداية المناسبة منسوبة لكتاب صدر له سنة 2013 بعنوان «تجربة الرب» الذي يمثل مقدمة أوضح لفهم الواقع فهما دينيا. أما «كل الأشياء مليئة بالآلهة» فمكتوب على هيئة حوار أفلاطوني (!) يدور بين جماعة من الآلهة اليونانيين المتقاعدين (!!) يتسكعون في ضيعة إيروس وسايكي (!!!) ويتجادلون بعضهم مع بعض في نقاشات البشر المعاصرين حول فلسفة العقل وعلم الأعصاب ونظرية المعلومات.

لو أن هذا هو ما تفضله، فهو لك، لكن حجج الملاحدة الجدد تستوجب الشدة، وهذا الكتاب يخلو من ذلك.

غير أن للقالب الحواري ميزة عظيمة، وهي أنه يستوجب من هارت أن يفرد مساحة كبيرة لأفكار اشتهر بتعامله معها بما يمكن أن نسميه «الازدراء الأولمبي». فمن خلال الإله هيفايستوس الذي يوعز إليه الكاتب الجانب التشكيكي المناهض للخرافة، تنالون شرحا موسعا للحجج القائلة بأن بالإمكان اختزال العقل والذات والفكر في مادة عديمة العقل. وهذا الشرح هو الذي يزيد الإقناع عندما تمنى هذه الحجج بالهزيمة (وهي هزيمة واضحة في تقديري) أمام حجة هارت بأن العقل والروح لا بد أن يكونا أسبق من العالم المادي لكي يكون لاختبارنا الكون أي معنى.

لو أنكم تتصورون هذا لعبا فلسفيا ولكنه في الوقت نفسه معاد للعالم بشكل أساسي، فيمكنكم أن تنصرفوا عنه إلى الكتاب الثاني في هذه الثلاثية، وهو كتاب سبنسر كلافان «نور العقل، نور العالم»، وهو حجة بأن تطور العلم الحديث يوفر أدلة معملية على أسبقية العقل.

ليس الأمر هنا هو الحجة المألوفة التي تقول: إن دقة الكون برهان على وجود ذكاء إلهي هو الذي رتَّب كل شيء. إنما هو حجة على أن النموذج المادي للكون بوصفه نظاما ماديا مغلقا تتقافز فيه وحدات المادة تقافز كرات البلياردو قد أطيح به على يد ثورة الكوانتم التي أظهرت -أمام حيرة كثير من العلماء- أن الاحتمالات لا تنهار في الواقع نفسه إلا حينما يوجد عقل واع يقيس ويراقب.

يذهب كلافان إلى أن التأمل الحقيقي لهذا الاكتشاف يجب أن يرغم على اختيار حاسم. من ناحية، يمكننا أن نتبنى شكلا من خدعة «الكون التعددي» (الشائع اليوم في الثقافة الرائجة لأسباب مفهومة) الذي لا يوجد فيه واقع مفرد إنما تتعايش فيه بطريقة ما جميع الاحتمالات. لكن هذا يؤدي إلى تفكك وعدمية وموت للمشروع العلمي ذاته الذي يحاول الحفاظ عليه.

ولهذا فإن الخيار الآخر هو المفضل، لو أنكم تثقون حقا في العلم، وهو القبول بوجود واقع واحد فقط -«ينشأ حينما يقوم وعي بإعطاء شكل للزمان والمكان»- وينشأ بمعنى ما كلما وقعت عليه أعيننا، وينشأ أساسا على يد (القوة) التي قالت في المقام الأول «ليكن النور».

وهذا أمر جلل من وجهة النظر المادية، ولكن من واقع تجربتي مع المتشككين ذوي العقول المنفتحة، ليست هذه هي النقطة التي يصلون فيها إلى أقصى درجات الاحتمال. إنما الأرجح هو أن يبلغوا ذلك عندما نتقدم خطوة أبعد إلى نطاق الدين القديم الحقيقي، فنبدأ في الحديث عن سبل أكثر تخصيصا واستعصاء على التنبؤ بها يشكل بها عقل ما وراء طبيعي الواقع المادي، أي عالم المعجزات والكشوف والرؤى والبشائر والملائكة النورانيين والشياطين.

وهذا العالم هو موضوع الكتاب الأخير في ثلاثيتي وهو كتاب «العيش في الأعجوبة: العثور على الغموض والمعنى في عصر علماني» لرود دريهر. وهو جزئيا دليل عملي للساعين إلى علاقة أكثر روحانية مع الواقع كالتي كانت أغلب المجتمعات البشرية تنعم بها ثم جاء مجتمعنا نحن فبترها في حماقة. لكن الكتاب أيضا يمثل مجموعة بيانات عن دوام العجب حتى في ظل أوضاع تتنكر للعجيب، وعن وقائع خارقة تزدهر حتى في عالمنا العلماني المفترض.

يعني هذا أن كتاب دريهر -من الكتب الثلاثة- هو الأكثر طرافة، فهو الذي يحكي لنا أفضل القصص، ويغطي جوانب من الحياة الإنسانية هي الأهم لبقاء الدين من أي حجة أو نظرية، ويطرح علينا في المقام الأكبر حقيقة أنه حتى في المجتمعات التي تقصي أي ملمح للخوارق من أنظمة معرفتها الرسمية، تظل تجارب غريبة تخترق هذه الأنظمة.

لكن من منظور حراس المعرفة الرسمية، فالخوارق هي غالبا المجال الذي تتوقف فيه القدرة على «التقبل الحذر» ويبدأ العجز التام عن التقبل. فإله الفلاسفة والفيزيائيين شيء، وإله الخرافيين من طاردي الأرواح الشريرة وأصحاب المعجزات وتجارب المشارفة على الموت شيء آخر سيئ السمعة إلى حد ما، أو هو كذلك إلى أن تمر شخصيا بتجربة من هذا القبيل على الأقل.

ولكن الإلهين إله واحد من المنظور الديني بالطبع -وليس منظور هارت أو كلافان بأقل دينية من منظور دريهر. وإذن فمحك كل هذه الحجج هو ما لو أن من الممكن دفع عالمنا التعيس بعدم إيمانه إلى هذه النتيجة البعيدة، وما لو أن انكشاف حقيقة العلمانية أخيرا كاف لجذب مزيد من الناس إلى أعتاب الدين لولا أن اجتذابهم يقتضي ما هو أكثر من الحجج.

روس دوثات من كتّاب الرأي في نيويورك تايمز منذ 2009

خدمة نيويورك تايمز

أخبار ذات صلة

0 تعليق