الهجرة إلى الخليج.. الجذور والأزمة - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الهجرة إلى دول الخليج العربية.. موضوع ليس جديداً؛ فهو قائم منذ أمد، المقال.. لا يدق ناقوس خطر المشكلات التي تنتج عن هذه الهجرة؛ فالخطر ظاهر لا ينكره إلا عاجز عن معالجته أو مستفـيد منه. وإنما يطرق الباب مع الطارقين، رجاءَ أن تفتحه حكومات الخليج بالمعالجة، وهي معالجة شائكة ومعقدة، لكن لابد منها.

الهجرة إلى دول الخليج.. تسارعت خلال الخمسين سنة المنصرمة، نتيجة الطفرة النفطية وسعي الحكومات إلى بناء دول عصرية، والذي جاء مدفوعاً من الغرب، لتفادي الزحف المتسارع للحركات المناهضة للرأسمالية كالشيوعية والقومية، خوفاً من شفط البترول من بين أيدي الشركات الغربية. فلا تزال حينها تجربتهم المريرة بإيران تقضّ مضجعهم، حيث أممت حكومة الرئيس محمد مصدق (ت:1967م) البترول، وأزاحت الشركات الأمريكية والبريطانية، مما دفع بمخابرات الدولتين إلى الانقلاب ضده عام 1953م فـي عملية عرفت بـ«أجاكس». إن الهجرة إلى دولنا لم تكن احتياجاً خليجياً صرفاً فقط، وإنما أيضاً تدور فـي فلك مصالح السياسة الدولية، وقد أصبحت أكثر تعقيداً؛ لتحولها إلى مواثيق دولية وقضية حقوق إنسان، ومع ذلك؛ من المرجو أن يعيد فـيها ساسة الخليج النظر، وأن يضعوا استراتيجيات تتلاءم مع المتغيرات الدولية.

وإذ أشرتُ إلى مشكلة الهجرة فـي العصر الحديث؛ فإن الهجرة ذاتها شأن بشري قديم قدم الإنسان، فالتاريخ.. يحدثنا بأن الحضارات قامت نتيجة الهجرات، ولنا فـي السيرة النبوية معتبر، فلولا هجرة النبي محمد وصحبه من مكة إلى المدينة لربما تحجّر الإسلام فـي نشأته، ولم ينتشر مشكّلاً حضارة عالمية. والهجرة المعاصرة إلى الخليج تركت أثراً إنسانياً على هيكلة الاجتماع فـيه، وعلى كاهلها قامت البُنية الأساسية لمنشآته الحيوية. إنه الوضع الأزلي الذي يكثّفه حكيم المعرّة بقوله:

الناس للناس من بدوٍ وحاضرةٍ

بعض لبعضٍ وإن لم يشعروا خدمُ

إننا نتفهم البُعد الإنساني؛ بحيث لا ينظر الإنسان إلى أخيه الإنسان نظرة استعلاء أو استعداء، أو تمييز على أساس عرقي أو جغرافـي أو ديني أو ثقافـي. لكن الأمر يتجاوز كل هذا إلى ما يحصل على أرض الواقع، وما تخبئه تحولات المستقبل للمنطقة؛ إن لم تسارع حكومات الخليج إلى حله بشكل صحيح وحكيم.

لننظر تأريخياً إلى وضع الجزيرة العربية، فالدين واللغة فـيها صنوان، لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، وقد ترسّم دينها بالإسلام ولغتها بلسان القرآن، وهما ركنان لشجرة ضاربة الجذور فـي أرض الجزيرة؛ هي الملة الإبراهيمية، متجلية بالبعثة المحمدية. منذ أن كانت الجزيرة «متعددة الأديان» لم تخرج عن الانتماء الإبراهيمي؛ ضامة اليهود والنصارى من أهل الكتاب والحنفاء والمشركين، الذين لم يَحُلْ تنوّع معتقداتهم عن شعورهم بالانتماء إلى النبي إبراهيم واعتباره أباً لهم. هذا يعني.. أن من أراد أن يستوطن الجزيرة العربية؛ عليه أن يستظل بركني الشجرة الإبراهيمية الكبيرين: الدين؛ الذي أصبح فـي جزيرة العرب حصراً على الإسلام، والعروبة متمثلة فـي اللغة والقبيلة، وبالواقع؛ فإن القبيلة تكشف «التسلسل النسبي» للدين واللغة أكثر من كشفها النسبَ الدموي. فالهجرات التي حدثت بعد الإسلام؛ دانت به -إن لم تكن مسلمة بالأساس- وتكلمت العربية واندمجت فـي النظام القبلي، وبهذا الانصهار استطاعت الجزيرة أن تحافظ على الانسجام بين قاطنيها. وعملية الانصهار.. ليست خصيصة للجزيرة العربية، وإنما هي عامة فـي المجتمعات البشرية.

إن ما حصل خلال آخر نصف قرن أكبر من أن تتمكن الدول من مواجهته، فأوروبا.. على الرغم من تبنيها الليبرالية والعلمانية، وترسخّهما فـي اجتماعها البشري، ورغم أن مجتمعاتها قوية ثقافـياً، تغري المهاجر إليها بتبنّي قيمها، إلا أنها لم تتمكن من تحقيق الاستقرار التام، وهي مهددة كغيرها باضطراب التركيبة السكانية، هذا مع الضبط المستمر لديناميكية التحولات الاجتماعية فـي الغرب مقارنةً بما نحن عليه فـي دول الخليج.

دول الخليج العربية.. بسبب الهجرة تترصدها الكثير من التهديدات؛ ليس على مستوى السطح الاجتماعي فحسب، مثل: فرص العمل التي يستأثر بها الوافدون، أو نزاعات العمال التي لا تنتهي، أو ضعف جودة العمل؛ لأن الوافد همّه الكسب قبل الوطن الذي يعمل فـيه، وإنما أيضاً على مستوى العمق الاجتماعي، التي تبدو أمامه المهددات المذكورة بسيطة، والتي أجملها فـي العناصر الكبرى الآتية:

- الهُوية.. باتت الهُوية الخليجية مهدَّدة على مختلف الأصعدة، وبغض النظر عن التباين فـي تعريفها وتحديد مفهومها؛ فإن تبدّلها تبدّلٌ فـي الإنسان والوطن، فهُوية جديدة تعني اجتماعاً آخر يحل محل اجتماع سابق، إن انحسار ثقافة ونمو ثقافة جديدة يستلزم تغيّرات سياسية ودينية واقتصادية وعرقية، وعلى أحسن الأحوال ستكون الهُوية الخليجية؛ «العربية المسلمة» هُوية الأقلية، التي عليها أن تناضل لتبقى أطول وقت قبل أن يدركها الانقراض؛ بفعل التحولات العالمية الكبرى والتقنية المتسارعة. وعلينا ألا نوهم أنفسنا بنجاعة ما نسطّره فـي استراتيجياتنا من عبارات رائقة وما نقيمه فـي خططنا من متاحف مبهرة للحفاظ على الهُوية، فهذه لن تصمد طويلاً أمام الطوفان الجارف لتحولات الواقع.

- الدين.. لبّ الهُوية، والتحول فـيه ليس كالتحول فـي غيره، وإنما هو قنبلة موقوتة، ففـي أية لحظة تنفجر ستطير بشعارات التسامح والتعارف والتعايش أدراج الرياح. فالتسامح الديني لدى المتدين.. إن كان يجب ألّا يقترب من نقد معتقداته وآرائه الدينية؛ فإنه من باب أولى يجب ألا يؤثر على ديموغرافـية التركيبة السكانية، فهذا يولّد عنفاً أعمى؛ يضرب بسوطه كلَ اتجاهات المجتمع، ما لم تهيمن رؤية دينية على الوضع، ومع غلبة المهاجرين إلى المنطقة بأديانهم مختلفة؛ فإن الهيمنة غير واردة، مما قد يدخل المجتمع الخليجي فـي صراع لا يُعرف منتهاه ولا تُقدّر عواقبه.

- اللغة.. لسان الأمة، وبستانها الذي انغرست فـيه جذورها، وديوانها الذي يحكي قصة نشأتها وتطورها وآلامها وآمالها، وتخلي أمة عن لغتها مودٍ بها. والأمم الحية تنشر لغاتها لتثبّت وجودها فـي العالم، ويصبح المتكلمون بها امتداداً لحضارتها ونَقَلَةً لثقافتها ووجهاً لمدنيتها. واستمرار الهجرات بأعداد ضخمة إلى الخليج يخفّض من نسبة عدد السكان الأصليين أمامها باطراد، مما يجعل العربية إحدى اللغات التي يتكلم بها السكان وليست لغتهم الأولى، وعلى الرغم من السياسات التي تسنّها حكومات الخليج العربية إلا أن الواقع يقول إن العربية أصبحت لغة التعامل المحلي بين السكان العرب، فإنْ أردتَ أن تتعامل مع أي معطى سياسي أو اقتصادي أو علمي فعليك أن تتكلم بالإنجليزية، أو بلغة مَن تتعامل معه.

- النظام السياسي.. السياسة عقيدتها الواقعية؛ أي أنها تتغير بحركة الواقع، فليس بمقدور السياسة وحدها الحفاظ على هُوية شعب، ولا دين جماعة، ولا حضارة أمة، ولا مكتسبات وطن، إلا بقدر ما يمكّنها من إدارة شؤون شعبها، وقد أثبت التاريخ تهاوي الأركان الاجتماعية الصلبة تحت سنابك المتغيرات السياسية التي لا ترحم. وفـي الخليج.. ستحل أمم أخرى بثقافتها محل الشعب العربي المسلم، وستتوافق على نظامها السياسي، مستفـيدة من الأوضاع الدولية. وعلينا أن ننتبه بأنه ليس كالسياسة خادعة، إنك قد تدرك التحولات فـي الثقافة والدين والاقتصاد بوقت مبكر، وتلحظ تطوراتها، إلا السياسة؛ فقد تنفجر فجأة، عاصفةً بكل شيء، ليس لها من سبيل إلا الانتقال من مرحلة أدبرت إلى مرحلة أقبلت، مستخدمة شتى الوسائل؛ من الأنظمة الدولية إلى العنف، ولنا نحن العمانيين فـي شرق إفريقيا معتبر.

هذه العناصر الأساسية التي شكّلت المجتمع العربي منذ الأزل؛ آخذة فـي الضعف، ولا يكفـي وضع سياسات عامة والتغني بالهُوية، ما لم تحل بالأساس مشكلة الوجود الأجنبي فـي دول الخليج، وتفعّل «الثقافة العربية الإسلامية» التي تنصهر فـيها الثقافات الوافدة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق