الجواب المباشر عن هذا السؤال هو أن المقاطعة مما أرشد إليه هذا الدين الحنيف بأدلة في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته العطرة، أي المقاطعة الاقتصادية، ولذلك في نشوب حرب بين المسلمين وغيرهم من أهل الشرك والكفر من أهل العداوة والجبروت فإن من وسائل دفع العدو قطع سبل الإمداد الاقتصادي، وأصل ذلك في كتاب الله عز وجل في قوله جل وعلا: «مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ» وكان ذلك في مواجهة بين المسلمين واليهود، وتحدث اليهود أن محمدا وأصحابه صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عن أصحابه أنهم يفسدون في الأرض، فبين ربنا جل وعلا في كتابه الكريم أن ما كان من وسائل قطع الإمداد والتضييق على العدو المحارب، وأن في مثل هذا الصنيع الذي أذن الله عز وجل به خزي للفاسقين، وهذا ما سعى إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ أن وطئت قدماه الشريفتان مدينته صلى الله عليه وآله وسلم،
فإنه سعى إلى قطع سبل الإمداد الاقتصادي عن قريش والمشركين واتخذ في سبيل ذلك كل ما يمكنه لمنع القوافل وتحويل التجارة إلى المدينة المنورة، وهذا ما صنعه أيضا في المدينة نفسها، حينما فتح سوقا للمسلمين كانت مستقلة عن سوق اليهود، وحينما قام في إجراء هذه السوق بأن جعلها سوقا حرة مفتوحة خالية من الضرائب، وحث أصحابه على الاتجار وعلى عرض ثمارهم وزروعهم وسلعهم فيها ليستقلوا عن اليهود الذين وقع معهم معاهدة، وكانت السيادة إليه -عليه الصلاة والسلام- ومع ذلك فإنه لم يغفل عن أهمية البناء الاقتصادي والتضييق على العدو إما أن يكون العدو كامنا أو أن يكون العدو قائما محاربا.
ومن سيرته العطرة عليه الصلاة والسلام أيضا أنه أقر ما فعله أبو جندل وأبو بصير وكان إسلامهما في الفترة إبان توقيع رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلح الحديبية، أما أبو جندل فكان قبيل التوقيع حتى أنه أتى ولمّا يوقع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصلح، ولكن مع ذلك تمسك مشركو قريش بما في الصلح من موعدة، فرد أبو جندل والتحق بسيفة البحر فكان يقطع القوافل عن قريش، ثم بعد ذلك أيضا أسلم أبو بصير ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، فبعثت إليه قريش برجلين يعيدانه تنفيذا لما كان فيه الصلح، فرجع معهما إلا أنه فعل فعلته بأحدهما، وليس هذا محل للبحث الآن، ثم التحق بصاحبه أبي جندل فكانا يقطعان طرق القوافل عن المشركين.
وهذا ما فعله ثمامة بن أثال وهو سيد قومه بني حنيفة في طرق القوافل من الشام خاصة فيما يتعلق بالحبوب والثمار، فلا يأتي اليوم أحد ويجادل في مشروعية المقاطعة، ولا يمكن أيضا أن يجادل في أثرها، فإن أثرها بالغ فهذه الشركات الداعمة للكيان الصهيوني التي لا يخفى أمرها على أحد، ليس حديثنا في بعض الشركات التي لم يتضح أمرها بعد، فمقاطعتها أولى وأسلم، وإنما الحديث عن الشركات التي صرحت وعلم حالها أنها مؤيدة داعمة وأنها تخصص نصيبا من أرباحها وأنها توفر لهم ما يحتاجون إليه من إمداد سواء كان ذلك في الأغذية أو في المشروبات أو في الملابس أو في العتاد العسكري أو في غيرها فإن كسر شوكتهم بالمقاطعة الاقتصادية التي يستطيعها الأفراد والتي يكون الأمر فيها إليهم، ليس بحاجة إلى إذن من جهة، وهذا فعل للأشخاص أنفسهم فيما يشترونه ويقتنونه وفي السلع التي يختارونها، فمرد هذا الأمر إليهم، فمقاطعة هذه الشركات هو من الجهاد بالمال من التضييق على العدو الغاشم الذي اعتدى بكل إجرام ووحشية على إخواننا في غزة وفلسطين وفي لبنان.
فهذه المقاطعة هي نكاية بالعدو وقطع لسبل الإمداد الاقتصادي وزعزعة لهيمنة هذه الشركات الداعمة للكيان الصهيوني وفيها رفع لمعنويات إخواننا المستضعفين وفيها بعث لرسالة للعالم أجمع، وأن هذه الأمة أمة حية، وأنها يشد بعضها بعضا، وأنها إزاء مواجهتها لعدوها فإنها تقف صفا مرصوصا ويدا واحدة، وأن يوقن الناس أن ذلك من أسباب استمطار رحمة الله عز وجل ونصره لعباده المستضعفين، فهذا مما هو متاح في أيدي الناس ويحمل كل هذه المعاني والدلالات ويستند إلى هذه الأدلة الشرعية، فلا التفات إلى ما يزعمه المثبطون والمتقاعسون والمتكاسلون.
فهذا الدين دين واقعي يتعامل مع هذه الأمور بواقعية لكنه يغلب المصالح العليا للأمة ويغتفر المضار الصغيرة فدعوة البعض بأن بعض هذه الشركات تشغل عددا من القوى العاملة الوطنية هذه مزاعم فارغة، لأن الصحيح أن هذه الشركات الكبرى لا تشغل من القوى العاملة الوطنية إلا نزرا يسيرا ونسبة قليلة منهم، وهذه حقيقة يدركها كل أحد من المطاعم والمقاهي بهذه العلامات التجارية المعروفة المؤيدة للشركات الكبرى في مختلف أنواع السلع والخدمات، فإنها لا تشغل قوى عاملة محلية وطنية إلا بمقدار يسير ولعلها في بعض الوظائف فقط ومع ذلك فما من شيء من التكاليف الشرعية ومما أمرنا الله عز وجل به إلا وفيه قدر من التكليف المقدور عليه المستطاع، وهذا ابتلاء لنا، فالحياة ابتلاء، فالله تعالى يقول: «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ» وقال تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» هذه العبادة استقامة والتزام وتدين وصلاح وأمر بمعروف ونهي عن منكر، هذه كلها وراءها تكاليف لا بد أن يحمل المرء نفسه عليها، وأن يتحمل تبعاتها، وأن يوجد الحلول إذا كانت هناك منتجات محلية فينبغي أن تشجع، وأن تنشأ شركات وطنية لإيجاد البدائل المناسبة لهذه السلع والخدمات والمنافع، التي تعتبر فرصة مواتية لأرباب الأموال ولأصحاب العقول والمهارات ويبتكروا ويوجدوا صناعات وسلعا محلية وطنية، وأن يشغلوا فيها الشباب العمانيين والقوى العاملة الوطنية.
في قوله تعالى: «مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ» ما هو العبقري الحسان؟ الرفرف هو البسط عند كثير من المفسرين وقيل طرف الفسطاط، والفاضل من الفرش، والبسط ويقصد به ما يوشى به ويزين الفراش أو البساط، كناية عن وثارة ذلك الفراش أو البساط، والعبقري هذا الوصف يستعمل في العربية لوصف ما تناهى في الحسن، وفاق في الجمال، فيوصف بأنه عبقري، آخذا هذا الوصف مما كانوا يتصورونه بأن هذه الأرض هي أرض الجن فتأتي بالعجيب الغريب متناهيا في الدقة والجمال، فإنهم يصفونه بأنه عبقري من الماديات أو حتى من المعنويات فكأنه ينتسب إلى عالم بلغة المعاصرة، عالم من الإبداع والإتقان والحسن والجمال، فهنا الوصف أيضا للفرش والبسط في هذه الآية الكريمة والله تعالى أعلم.
يقول السائل: رغم المكانة السامية التي يتبوأها حامل العلم وصاحب الإيمان إلا أنه قد يكون هناك فراغ بينهم وبين مكارم الأخلاق وحسن المعاملة، أود من فضيلتكم أن تحدثنا عن أهمية اقتران العلم والإيمان بمكارم الأخلاق. أما اقتران مكارم الأخلاق بالعلم والإيمان فهذا ظاهر في أجل صوره فيما وصف به ربنا تبارك وتعالى نبيه الكريم حينما قال: «وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ» فإن صاحب الرسالة صلى الله عليه وآله الذي بوئ هذه المنزلة جعل خلقه دليل صدق للقرآن، إلى هذا الحد أثر هذا الوصف الشريف الباذخ الذي وصف به ربنا جل وعلا نبيه محمد صلى الله عليـه وسلم في هذه الآية الكريمة، فهي شهادة من الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فيما يظهر معاني الإيمان وحقيقته وجوهره وحسن الاستقامة والتدين لله عز وجل فإنها تظهر للناس في حسن الخلق ولذلك وصف خلقه عليه الصلاة والسلام بأنه خلق عظيم، ثم جعل هذا الوصف دليلا على صدق القرآن نفسه فخلقه عليه الصلاة والسلام دليل صدق القرآن الكريم إذ لو وجد مطعن في خلقه لطعن في هذه الآية الكريمة وهذا يعني طعن في القرآن نفسه، ولكن لم يوجد عاقل منصف يقبل قوله طعن في خلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولو من خصومه، فيكفينا أن نتبين هذه المنزلة العظيمة للخلق لمن كان في منزلة أعلى علما ودينا، فإن ذوي العلم هم أولى الناس أن يتمثلوا أخلاق القرآن الكريم وأن يتأسوا بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وربنا تبارك وتعالى وصف نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بوصف دقيق يبين أثر الخلق وهو النبي المسدد بالوحي، الذي يعرف أصحابه رضوان الله تعالى عليهم منزلته ومكانته فيهم ومع ذلك فإنه يقول: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذا قلب رحيم، وكان واسع الحلم، كان في الذروة من الأخلاق، ولذلك وصفه ربه بقوله «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ» كان لين الجانب لأصحابه صلى الله عليه وسلم، ثم بيّن ما يمكن أن يكون عليه الحال لو لم يكن هو عليه الصلاة والسلام على هذا الخلق العظيم وعلى لين الجانب ورحمة القلب بأصحابه وبأمته، فقال: «وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» والحديث يطول في معنى لانفضوا من حولك، فمن يقرأ كلام الإمام الطبري في هذا الموضع، وكلام الإمام القرطبي في هذا الموضع لرأى أمرا عجبا في معنى الانفضاض عنه عليه الصلاة والسلام من أصحابه المذكورين، هنا أتذكر بعضا منها، ثم إلى آخر ما نتصور من الانفضاض عنه عليه الصلاة والسلام فبعضهم لطّف العبارة وقال: تفرقوا عنك، ولكن منهم من نص وقال: لتركوك وتركوا ما جئت به إلى هذا الحد. فالمسألة مسألة ذات شأن عظيم فقد يورث الخلق السيئ نفرة عن الدين كله، وقد يورث انكفاء عن الاستقامة والصلاح.
ولذلك بعد هذا الجزء في الآية الكريمة يذكرهم ربنا تبارك وتعالى بالأصول والمبادئ التي لا بد أن تراعى في إقامة أول مجتمع المسلمين، «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» الأعجب هو ما جاء بعد هذه الآية مباشرة قال: «إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» وها هو عليه الصلاة والسلام يقول: «إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، ويقول: «إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم» ويقول: «إنما بعثت لأتمم محاسن الأخلاق»، فأولى الناس بتمثل هذه الأخلاق العالية والسمت الرفيع والأدب الجم هم أولو العلم المنظور إليهم، وهم ذو المكانة التي يتأسى الناس بأقوالهم وأفعالهم ويتخذونهم قدوات ولا بد للمجتمع من قدوات حسنة تحرص على أن تكون في الذروة من الأخلاق الرفيعة العالية وأن يصبروا على أذى الناس، وأن يكظموا غيظهم، وأن يتجملوا بالحلم، وأن يوسعوا صدورهم للناس، حتى أن بعض المفسرين يقول: إن في قول الله تبارك وتعالى: «ألم نشرح لك صدرك» شرح الصدر هذا هو من إعدال الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتحمل أعباء الوحي والتبليغ فإن من كان في هذه المنزلة لا بد أن يكون واسع الأفق، منشرح الصدر، محتملا لأذى الغير، صبورا حليما متحليا بأعلى الخلال وأجمل الفضائل، فهذا هو الرابط المتين الذي نجده بين العلم والأخلاق في ديننا الحنيف.
0 تعليق