ديمومة «حديث الصباح والمساء»! - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

(1)

ما من مرةٍ عُرض فيها هذا المسلسل الدرامي المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ «حديث الصباح والمساء»، إلا وتساءلت عن موقع هذه الرواية التي كانت آخر ما كتب من روايات (صدرت عام 1987) بين أعماله التي نالت نصيب الأسد من القراءة والبحث والتحليل النقدي..

منذ صدورها في 1987 وحتى تحويلها لمسلسل تلفزيوني عرض على شاشة التلفزيون المصري في سنة 2001 ومنه إلى بقية شاشات التلفزيون في العالم العربي، لم تسترع الرواية انتباه أحد باستثناءات لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة!

ففي حدود علمي لم يكتب عنها سوى ناقدين أو ثلاثة نقاد على الأكثر، ولم تحظ بأي دراسة أو تحليل مطول خلال تلك المدة الطويلة، وبرغم ظفر محفوظ بجائزة نوبل للآداب في عام 1988، وما أعقبه ما يمكن اعتباره انفجارا نقديًا حول أعمال نجيب محفوظ لم يتوقف حتى اللحظة!

كانت هذه التساؤلات، وغيرها، مع النجاح الكبير والساحق وغير المسبوق للمشاهدة المرئية للمسلسل التلفزيوني المأخوذ عنها، دافعًا للبحث عن "ماهية" هذا النص، واختلافه، والوقوف مليا عند ما قاله صاحب النص (نجيب محفوظ) شخصيا عنه، وكيف يموضع هذا العمل بين مجمل أعماله الـ57 (روايات وقصصا وعملا مترجما).

(2)

بداية من المهم الإشارة إلى قصة قصيرة لنجيب محفوظ اسمها «في أثر السيدة الجميلة»، وهي واحدة من أجمل قصص نجيب محفوظ القصيرة، على الإطلاق، نشرت ضمن مجموعته «التنظيم السري» (1984) التي كانت أول ما قرأت من إبداعه القصصي، أفكاره غريبة وانشغالاته الوجودية والمعرفية تفصح عن نفسها بقوة في هذه القصص، أسئلة متوترة متوجسة، فـ"المرأة الجميلة" هي رمزيته المفضلة لتمثيل الدنيا والعالم و"الحياة" التي لا تدرك ولا تُمتلك ولا ينتهي السعي أبدًا في ملاحقتها ولا الرغبة في تملكها!

الحياة جميلة والدنيا مشتهاة كما المرأة الفاتنة، وما بين السعي واللهفة لإدراك ما لا يدرك.. تتلخص الحياة في كلمتين.. استقبال وتوديع.. أو "حديث الصباح والمساء"..

كان نجيب محفوظ يلح على الفكرة يدور حولها، ويحاول اقتناصها مرة في صورة قصة قصيرة ولربما تحولت إلى رواية أو أكثر، أو كما يقول هو بنصه وحرفه في حواره المهم مع الناقد الكبير محمود عبد الشكور في أوائل التسعينيات من القرن الماضي "أكرر نفس الفكرة في أكثر من قصة حتى أتحرّر من الإلحاح".

والمتتبع لهذه الصلات بين كثير من قصصه القصيرة ورواياته لن يعدم هذه الصلة أو هذه العلاقة أبدًا! لمن أراد على سبيل المثال البحث عن العلاقة الوطيدة التي تربط بين «حكايات حارتنا» و«رأيت فيما يرى النائم» و«أصداء السيرة الذاتية» و«أحلام فترة النقاهة»!

وكذلك، قصة "زعبلاوي" -على سبيل المثال- في مجموعة «دنيا الله» (1962) تكاد تماثل رواية «الطريق» (1964) من حيث الفكرة. محفوظ يبدأ القصة على لسان الراوي هكذا: "اقتنعتُ أخيرًا بأن عليّ أن أجد الشيخ زعبلاوي. ولكن من هو الشيخ زعبلاوي؟ لقد سأل والده عنه فقال له: فلتحلّ بك بركته، إنه ولي صادق من أولياء الله وشيّال الهموم والمتاعب ولولاه لمتّ غمًّا"،

وتنتهي القصة والراوي ما زال يبحث عن "زعبلاوي" أملًا في الخلاص والراحة تمامًا كما كان "صابر الرحيمي" يبحث في «الطريق» عن والده المفقود أملًا في الحياة بكرامة، إنه سعي الإنسان المستمر للوصول إلى تلك القوة الروحية أو ذلك المطلق الذي لا حدود له، وماعدا ذلك هو الضياع المحقق.

(3)

الغاية التي أريد أن أصل إليها من الطرح السابق أن «حديث الصباح والمساء» لم تكن مجرد رواية فكر فيها نجيب محفوظ وكتبها، وانتهى الأمر حدَّ ذلك!

في تصوري هذا غير صحيح، فهي رواية تخايله منذ عقود قبل كتابتها، وقد عبرت الفكرة الرئيسة عن نفسها في نصوصٍ سابقة منها "في أثر السيدة الجميلة"، وغيرها من النصوص، لكن أهم ما أراد نجيب محفوظ التعبير عنه وتمثيله جماليا في «حديث الصباح والمساء»، بالإضافة إلى سؤاله الفلسفي والوجودي المؤرق حول صيرورة الحياة وديمومتها وسؤال الحياة والموت، هو تمثيل نشوء وتشكل وتطور الطبقة الوسطى المصرية، بخاصة طبقة "الأفندية" التي توسطت بين الأعيان (أصحاب رؤوس الأموال وكبارك الملاك) وبين الطبقات الدنيا والفقيرة وهم السواد الأعظم للمصريين في القرن التاسع عشر، ومطالع القرن العشرين.

«حديث الصباح والمساء» رواية حديثة لها شكل حديث، فيما حافظ على إيقاع الحكاية المروية الشعبية القديمة. يتحدث فيها محفوظ عن رجال مصر ونسائها، في فترة تأسيس وتشكيل مجتمع حديث بالكامل، يرسم ملامحهم، عيونهم وأجسامهم، يكتب عن لون حياتهم، وصوت ضحكاتهم، عن دينهم وعقيدتهم السياسية، عن صحتهم وأبدانهم، عن موتهم وأمراضهم.

أراد نجيب محفوظ أن يتتبع هذه الرحلة الشاقة المرهقة من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من خلال عشرات من النماذج والشخصيات البشرية الحية، كتبها وكتب عنها ورسمها بطريقة جد مربكة وصعبة وتحتاج إلى جهد قارئ مثقف واع يكون في مقدوره فك شفرات هذا النص، وإعادة تركيبه واستخراج الدلالات المتراكبة والمتداخلة في مستوياتها العديدة.

وهذا بالضبط ما فعله كاتب السيناريو والحوار الكبير محسن زايد في معالجته الدرامية الفذة للنص والذي أصبح من كلاسيكيات الدراما التلفزيونية المصرية والعربية منذ عرضه الأول وحتى الآن.

(4)

في الربع الأخير من القرن الـ18، وفي حواري القاهرة الفاطمية التاريخية العتيقة؛ الغورية، والدرب الأحمر، وسوق الزلط، والحسين وبيت القاضي، وبين القصرين.. إلخ، سيجمع الجوار في السكن، والصحبة في المقهى بين أصدقاء ثلاثة سيكون من نسلهم تشكيلات وتنويعات المجتمع من أدنى طبقاته إلى أعلاها يسرًا ورخاء: "يزيد المصري"، الذي جاء القاهرة بعد أن هلك أهله أثناء اجتياح الحملة الفرنسية للإسكندرية، و"عطا المراكيبي"، الذي يعمل في دكان يملكه رجل مغربي، زوَّجه ابنته وأورثه الدكان، و"الشيخ القليوبي"، المدرس بالأزهر وسيرث عنه انتسابه الأزهري هذا علما ودراسة ابنه الشيخ "معاوية القليوبي".

سيتزوج الأصدقاء الثلاثة، وينجبون البنين والبنات.. وهكذا تبدأ ثلاث «شجرات عائلة» بالمعنى الحرفي للكلمة، ويروح نجيب محفوظ بدأبه المذهل يتابع الفروع والأغصان، الأبناء والأحفاد؛ أوراق وثمرات هذه الشجرات الوارفة.

يرسم نجيب محفوظ جدارية هائلة من الشخصيات والأحداث، كل شخصية تضيف لمسة هنا أو أخرى هناك، ذلك النص المحفوظي النادر الذي كتبه في شكل أقرب إلى الألغاز، يحكمه فهرس أبجدي، كل حرف منه يبدأ به اسم شخصية من شخصيات العمل، فتتحول الشخصيات «الصولو» إلى مجتمعٍ مركب بكل ما فيه من علاقات وصراعات، وقصص، تشمل أطياف وطبقات المجتمع المصري كافة.. ليرصد تتابع الأجيال وصراعاتها خلال ما يقرب من قرن ونصف!

(5)

«حديث الصباح والمساء» رواية شديدة التكثيف والاختزال عن حياة أبناء الطبقة الوسطى بتنوع شرائحها والصلات المتداخلة بينها في مختلف العقود من تاريخ مصر الحديث، منذ جلاء الحملة الفرنسية عنها عام 1801 وبداية حكم محمد علي باشا في 1805 وحتى هزيمة الخامس من يونيو من عام 1967.

ولذلك، وكما يستنتج الناقد الراحل فاروق عبد القادر، كان أسلوب محفوظ مجردًا من العاطفة، حيث لا يريد أن يتعاطف القارئ مع أو ضد أحد، ولا توجد عقدة رئيسية أو فرعية من أي نوع، مجرد حكايات "متصلة منفصلة" شديدة التكثيف والإيجاز.

وتعددت النماذج البشرية التي عرضت لها الرواية بين المتدين الصوفي والسلفي والمتدين العادي الذي يلتزم بالفروض الرئيسية، وغير المتدين. وبين المتعامل مع الإنجليز والمهادن لهم، والمقاوم لهم، والمحب لسعد وكارهيه، وبين محبي فاروق والملكية، وأنصار تغيير مجلس قيادة الثورة، وبين من آمن بقيم "الليبرالية" الفكرية والثقافية والسياسية، ومن آمن بأهمية طرح الإسلام السياسي، ومن اعتقد بحتمية الثورة الشيوعية.. إلخ..

وبين كل هؤلاء من أراد إكمال حياته يومًا بيوم مبتعدًا عن كل انتماء وأي انتماء! ولذلك يمكن وصف حكايات الرواية بأنها بلا روح منحازة أو متحيزة لأحد أو لتيار أو لفكرة..

أخبار ذات صلة

0 تعليق