بعد إعادة انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية من جديد فـي فترة ثانية له (ظن الكثيرون بأنها شبه مستحيلة لما رافقه من قضايا قانونية وصراعات درامية كان من بينها تعرضه لحادثة اغتيال) تساءل المحللون السياسيون حول أسباب وصول ترامب وخسارة كامالا هاريس، وهل كانت خسارة هاريس، فقط، لأنها امرأة وأمريكا لم تتخلص بعد من أفكارها التقليدية وعنصريتها حول رئاسة المرأة؟ أم أن هاريس نفسها أحرقت ما يمكن أن يكون أوراقا لصالحها فـي مراحل سباق الانتخابات الرئاسية الأمريكية حين ركزّت فـي حملتها على قضايا حقوق المرأة والإجهاض، إضافة إلى التركيز على مهاجمة الخصم «ترامب» مع البعد عن قضايا الشعب الأمريكي الواقعية المرتبطة بالوضع الاقتصادي والأمان الاجتماعي؟ وهل كان وصول ترامب ممثلا للجمهوريين لقناعة الشعب الأمريكي بأحقيته فـي الرئاسة متكئين على نجاح خطابه القومي فقط أم أن هنالك عوامل أخرى عززت ذلك الوصول؟
يرى بن رودس نائب مستشار الأمن القومي فـي فترة حكم باراك أوباما إن استمرار نجاح القادة الشعبويين، مثل الرئيس المنتخب دونالد ترامب، يعود إلى مقدرتهم على استغلال «انهيار الديمقراطية الليبرالية الغربية»، والاستياء الشعبي العام تجاه المؤسسات والأنظمة القائمة حاليا. حلل رودس أسباب شعبية الجمهوريين مثل ترامب وغيره فـي أن الأمر يعود إلى فقدان الناس الثقة بالنموذج الديمقراطي الليبرالي، واعتقادهم بأنه بات يهدف لتحقيق الثروات والمكاسب السياسية للنخبة بدلا من العدالة والمساواة، ثم هل كانت مساحة دونالد ترامب فـي الحركة الانتخابية أكبر حيث أنه خارج البيت الأبيض، بعيدا عن المؤسسات الحكومية مما منحه الحرية فـي مهاجمة تلك المؤسسات وتحميلها تراكمات فشل الواقع فـي تحقيق أحلام الشعب الأمريكي وانعدام الأمان الاقتصادي؟ فـي حين عَلِقَ الديمقراطيون بمن فـيهم الرئيس ونائبته كامالا هاريس فـي ورطة التزامهم بالدفاع عن المؤسسات الحكومية والاقتصادية الحالية مضطرين لذلك كونهم ما زالوا ضمن هذه الدائرة، وأي انتقاد أو هجوم لها ما هو إلا هجوم على أداء الحكومة الحالية التي يمثلونها مما يجعله اعترافا بفشلهم فـي إدارة تلك المؤسسات التي يعتبرها أغلب الأميركيين السبب الرئيسي فـي معاناتهم، مع تركيزهم على قضايا الهجرة والهوية والتحول الجنسي التي يعتبرها الشعب قضايا نخبة ليست بأولوية قضاياهم المصيرية مما عزلهم عن الناخبين وجعلهم غير قادرين على فهم مخاوف الناس واحتياجاتهم.
لكن مع كل ذلك لا يمكن الظن بأن إمكانات دونالد ترامب الخطابية، وتأثيره الشعبي فـي الجماهير كانت وحدها سببا فـي وصوله، فمع ضعف الخصوم لا بد من الإشارة إلى دعم رجال الأعمال الأمريكيين لحملة ترامب الانتخابية، فضلا عن الدعم الخارجي الممكن غير المعلن، لكن أشهر تلك الحملات الداعمة كانت من إيلون ماسك الداعم الأسطوري لترامب، منفقا أكثر من 130 مليون دولار لدعمه وفق تقديرات «سي إن إن» مشكلا لجنة عمل سياسي باسم «America PAC» وظيفتها حشد التأييد لترامب، ودعوة الناخبين للتصويت له، وقد يتبادر للأذهان أن مبرر انضمام إيلون ماسك لدعم ترامب ـ بعد سوابق لمهاجمته وانتقاده ـ تعود لسياسات الديمقراطيين فـي الضغط على الأثرياء ومحاربة الاحتكار وفرض الضرائب، ولن يكون ذلك مبررا مستبعدا إذا ما وضعنا فـي الاعتبار ارتفاع أسهم شركة صناعة السيارات الكهربائية بأكثر من 6% إلى أعلى مستوى فـي أكثر من عامين عند 315.56 دولارا، بعد أن صعدت 19.3% عند الإغلاق، وتخطت الشركة بذلك حاجز تريليون دولار للمرة الأولى منذ أكثر من عامين. وضاق إيلون ماسك ذرعا بتقييد حكومة الديمقراطيين لأنشطته الاقتصادية التي يرى أنها إبداعية محفزة للابتكار خاصة فـي مجال الفضاء، ويجد فـي تقييد الحكومة لها تقييدا للإبداع، لذلك أطلق شعاره «التصويت لترامب هو التصويت للمريخ»، معربا عن قناعته أن البيروقراطية الحكومية التي تدعمها الإدارات الديمقراطية سوف تعطل حلمه بالتحول إلى حضارة «متعددة الكواكب» لكن لا يمكن أن تكون المنفعة المادية هي السبب الوحيد لدعم ماسك منقطع النظير لوصول ترامب للسلطة، هنالك أسباب فكرية شخصية كذلك، فماسك الذي تحوّل عن دعمه لشعارات الديمقراطيين حول التحول الجنسي صار من أشد المعارضين لهذا الأمر بعد معاناته الشخصية مع تحول أحد أبنائه معتبرا أنه وابنه تعرضا للتضليل والخداع بشعارات الديمقراطيين البرّاقة.
سياسيا كانت حرب غزة عاملا من عوامل وصول ترامب للسلطة، وما ذلك إلا لفقدان الشعب الثقة فـي إدارة بايدن التي وجدوا أنها تمارس النفاق فـي أعلى مستوياته، حيث تدعي نصرة الإنسان والسعي لوقف الحروب فـي حين تدعم، بل وتشارك إسرائيل حربها ضد شعب أعزل بغية السيطرة والاحتلال، وهذا لا يعني بالضرورة تبني ترامب ما يخالف ذلك، لكنها ردة فعل على انشغال الحكومة الحالية بقضايا سياسية مع إهمال قضايا محلية أكثر إلحاحا وأقوى أثرا فـي حياة الأمريكيين مع استنزاف موارد الشعب الأمريكي فـي حرب ليست حربهم دعما لدكتاتوريات فـي الشرق الأوسط مخالفـين شعاراتهم فـي دعم الديمقراطية.
ختاما: مجموعة دروس مستفادة من سباق الانتخابات الرئاسية الأمريكية لهذه الفترة لا بد من تحليلها؛ أهمها إن العالم يسير إلى تغير فكري ثقافـي، مع تحولات فـي الوعي لا يمكن إغفالها أو الاستهانة بها، ومنها ضرورة التركيز على القضايا المحلية التي تمس الشعوب مباشرة بدلا من التهويم فـي فضاءات خارجية إقليميا ودوليا مع إهمال هشاشة الوضع الداخلي، وما قد يبدو نصرا مؤزرا الآن قد لا يتجاوز كونه مرحلة انتقالية لتغيرات مرحلية فـي وعي الشعوب وإعادة صياغة الواقع، أما احتفاءات العرب فـي أي مكان بأي مرشح أمريكي وصل للرئاسة فلا معنى لها إلا العجز عن استيعاب الواقع رغم تكرار دروس التاريخ القريب والبعيد. والخلاصة التي لا تقبل المراء هي أن أي رئيس هناك لن يأتي إلا مدفوعا بأمرين هما المصلحة الشخصية ومنفعة أمريكا، وما يظنه البعض تعزيز علاقات دولية وشراكات اقتصادية وربما عسكرية ليس سوى استنزاف ذكي مدروس لثروات شعوب أخرى يظن عدم استحقاقها هذه الثروات، وما هي وثرواتها إلا وسائل للوصول لتحقيق استقرار مرحلي للاقتصاد الأمريكي وتعزيز لإمكاناته أيا كانت الوسائل والسبل، ولعل من الحكمة فعلا البحث عن خيارات أخرى لتحالفات اقتصادية مستقبلية قد تصنع أمانا سياسيا عن خيار الحليف الأوحد غير المؤتمن.
حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية
0 تعليق