مرفأ قراءة...
(1)
أومن بأن كتبا بعينها مهما مر من سنوات وعقود على صدورها الأول فإنها -بفضل قيمة متجددة أو منهج رصين محكم أو رؤية خاصة في الطرح والمعالجة- تحتفظ بقيمتها ومعرفيتها الأصيلة، وتشتد الحاجة إليها وإلى النهل منها في ظل ظروف وسياقات ثقافية معينة خاصة ما يتصل منها بالشأن اللغوي أو الهوية اللغوية وتطوراتها وما يتصل بها من أزمات وتحديات إلخ.
إلى هذه النوعية من الكتب القيمة، أنظر بإكبار إلى كتاب أستاذنا العالم الجليل الدكتور عبد الحكيم راضي؛ عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة، والمعنون «نظرية اللغة في النقد العربي ـ دراسة في خصائص اللغة الأدبية من منظور النقاد العرب»، والذي ما زال رغم مرور ما يقرب من نصف القرن (نوقش الكتاب في صورته الأولى كأطروحة لنيل درجة الدكتوراه في النقد العربي سنة 1976) على إنجاز هذه الأطروحة الأصيلة في الدراسات اللغوية والنقدية في التراث العربي، ما زال هذا الكتاب محتفظًا حتى وقتنا هذا بقيمته وأهميته ومرجعيته التي لا تحد لطلبة ودارسي اللغة العربية، والنقد العربي القديم على السواء.
وبالرغم من أني أحتفظ بطبعتين مختلفتين من هذا الكتاب (طبعة مكتبة الخانجي 1980، وطبعة المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة 2003) فإنني لم أقاوم رغبتي في الحصول على طبعة (مكتبة الآداب) العريقة التاريخية، صاحبة الأفضال على كل طلبة الدراسات العربية واللغوية والنقدية والإنسانيات عمومًا وهي تستحق كتابًا كاملا يؤرخ لأدوارها العظيمة في نشر المعرفة والثقافة العربية الرصينة.
المهم أنني لم أستطع مقاومة رغبتي في الحصول على الطبعة الصادرة عنها قبل سنوات قليلة (وهي ثالث إصدارات أو طبعات الكتاب عبر هذه المدة الطويلة) وكنت سعيدًا بهذه الطبعة جدًّا، وتداعت الذكريات تترى، واستدعيت قيمة هذا الكتاب الكبيرة والجليلة والإفادة الكبرى التي أفدتها منه "منهجيا" في قراءة نصوص التراث العربي القديم كنص "واحد" ثري، متنوع، متعدد الطبقات، وليس كنصوصٍ متقطعة متشذرة، مثل الجزر المنعزلة لا صلة بينها ولا علاقة..
(2)
كان هذا الكتاب من أوائل الكتب التي التفتتْ (ومن قبلها كتاب جابر عصفور العظيم عن "الصورة الفنية") إلى ما يمكن تسميته بـ"وحدة التراث العربي"، وإلى اتصال علومه ببعضها البعض بروابط قوية وعميقة، وتمتد هذه الشبكة من العلاقات تحت سطح هذا الركام الهائل من النصوص اللغوية والنقدية والشعرية، وفي الأدب والفقه وأصوله والتفسير والقراءات والحديث.. إلخ..
وكان مؤلفه أستاذي الجليل الدكتور عبد الحكيم راضي من السبَّاقين إلى لملمة خيوط نظرية عربية تراثية في "اللغة الأدبية" أو "الجمالية" من واقع سياحة أو سياحات عميقة جدا و"مثابرة" في كل مجالات التراث العربي، اللغة والبلاغة والنحو والتفسير والقراءات والتصوف والفلسفة.. إلخ. وكما هو معلوم وراسخ في الدراسات اللغوية والنقدية الحديثة، فإن هناك فارقًا كبيرًا بين "الإيمان النظري" بوجود علاقات عضوية تَنتظم المجالات المعرفية للتراث وبين "التحقُّق العيني" من التأثيرات المتبادلة التي تكشف عن وحدة المنظومة الفكرية للتراث.
وهذا "التحقق العيني" الملموس، كما يشير إليه نصر أبو زيد، في العديد من كتبه ودراساته، يجب أن يكون أحد هموم «القراءة» الواعية للتراث في أي مجال من مجالاته، فالقراءة التي تعكف على مجالٍ ما عكوفًا منغلقًا تعجز عن اكتشاف الدلالات الحقيقية لمنجزاته المعرفية. يقول نصر أبو زيد في مقدمة كتابه «إشكاليات القراءة وآليات التأويل»:
"ومن الضروري هنا الإشارة إلى أن دراسات لطفي عبد البديع، ومصطفى ناصف، وشكري عياد، وجابر عصفور وعبد الحكيم راضي في مجال النقد والبلاغة العربيين تُعتبَر دراسات رائدة في مجال اكتشاف العلاقات العضوية بين هذا المجال، وبين غيره من مجالات التراث العربي.
ويعود الفضل الأكبر في اكتشاف عمق تلك العلاقات إلى دراسة هامة قدَّمَها جابر عصفور عن «الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي» (صدرت الطبعة الأولى منه عام 1981 عن دار المعارف بالقاهرة)، وهي دراسة لفتت انتباه الباحثين بشدة إلى أهمية قراءة علوم التراث العربي «النقد العربي القديم وعلوم البلاغة العربية ودراسات الإعجاز القرآني والبلاغة» في ضوء علوم التراث كلها، الفلسفة وعلم الكلام، وعلم النفس، والتصوف، والتفسير، وعلوم اللغة على حد سواء.
وهي الدراسة التي فَتحَت المجال لباحثين كثيرين -منهم كاتب هذه السطور- لارتياد مجال الدراسات التراثية مُسلَّحِين بمنهجية للقراءة الواعية لا تفصل بين عناصر هذا التراث، ولا تجزئ مجالاته".
في هذا السياق الواعي بوحدة التراث العربي، والمدرك لأهمية التسلح بمنهجية معرفية توفر الأدوات والإجراءات التحليلية التي تعين على إعادة قراءة هذا التراث وإضاءته وكشفه.. إلخ، قدم الدكتور عبد الحكيم راضي بحثه الممتاز عن «نظرية اللغة في النقد العربي».
(3)
وكم كنت مبهورًا وأنا أتعرف على يديه (أي على يد الدكتور عبد الحكيم راضي) على جهود ابن جني العالم اللغوي الجليل، صاحب كتاب «الخصائص»، من خلال أحد نصوصه البعيدة في كتابه الأقل شهرة «المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات»، دُهشت فعلًا وأنا أراه يستخرج من باطن هذا الكتاب نصوصًا رائعة تكشف عن رؤيةٍ جمالية متقدمة جدا للغة "الأدبية العربية" في سياق ثقافتنا العربية؛ اللغوية والجمالية على حد سواء.
ويأتي كتاب «نظرية اللغة في النقد العربي» ليتصدى لبحث نظرية اللغة الأدبية كما صورتها كتابات النقاد واللغويين والبلاغيين العرب، ويحاول تقديم مفهوم متكامل لها، ويتضمن التفسير إلى جانب الوصف، كما يتضمن محاولة متواضعة للتقييم. ويدور المنهج الأساسي للبحث على محورين رئيسيين؛ هما:
المحور الأول؛ علاقة اللغة الأدبية بالمستوى النمطي العام من اللغة. والمحور الثاني؛ العلاقة بين مباحث الدرس البلاغي والنقدي؛ باعتبارها البيان النظري في التقنين للغة الأدبية، ومباحث الدراسات اللغوية العامة التي قامت بالتقنين للمستوى غير الفني من اللغة.
وقد بذل الدكتور راضي جهدًا جبارًا في البحث والحفر والتنقيب عن جذور وروافد النظرية اللغوية "الجمالية" عند العرب؛ ليمثل حلقة تأسيسية أولى محورية ضمن مشروع كبير، ضخم، لإعادة قراءة، ودراسة، تراثنا العربي في جوانبه اللغوية والبلاغية والأسلوبية في إطار نظرة كلية شاملة للتراث، لا تتعامل معه كوحدات منفصلة وجزر مستقلة، بل باعتباره كلا واحدا يتميز بالوحدة والاتساق والتآلف؛
ومن ثم، فإن مقاربته منهجيا يجب أن تقوم على "مراعاة الاتجاه الكلي العام، والنتائج النهائية لهذا الاتجاه، دون الارتباط بجزئية واحدة معينة على أساس أن التركيز على الجزئيات، منفصلة، قد يوقع في الخطأ -وربما التناقض- الذي تعصم منه النظرة الشاملة، والبدء بتكوين اتجاه عام يقوم على استقراء الجزئيات بالفعل؛ ليتحول بعد ذلك حَكَمَا على هذه الجزئيات بالقبول أو الرد" (راجع كتيبه الممتاز «النقد والتجديد في الشعر العباسي»، سلسة (كتابك)، العدد 150، دار المعارف، 1978)
(4)
على يدي أستاذي، وبفضل دراسته المرجعية هذه بالإضافة إلى كتبه الأخرى في الدائرة ذاتها، أدركتُ بل تأكدت أن في تراثنا كنوزًا لا تُسلم بعض نفائسها إلا لمن وهب لها روحه ونفسه، بمحبة وإخلاص وتجرد، ودون أي محمولات أيديولوجية أو انحيازات مسبقة، كان عبد الحكيم راضي مثالًا باهرًا وفذًّا على هذا الغواص العاشق للتراث، غير المستسلم لغوايته ولا المتعالي عليه، بل الساعي إلى فهمه وإدراك دلالاته ومعانيه في سياقه الثقافي والاجتماعي والعقدي، دون لي أو قسر أو التواء في الشرح والتفسير..
ولن يفي حق عبد الحكيم راضي عندي مقال أو اثنين، أبدًا.. أدعو الله أن أفي بما في عنقي له ذات يوم..
0 تعليق