كيف تكون كاتبا في عصر ترامب الثاني؟ - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

ترجمة: أحمد شافعي

أول ما خطر لي عندما استيقظت الأسبوع الماضي على خبر انتخاب دونالد ترامب رئيسا للمرة الثانية هو أن أكتب. وليس هذا بغريب عليَّ. فعهدي بنفسي منذ أكثر من ستين عاما أنني أكتب في الفترات الصعبة.

ذلك ما فعلته في أعقاب معارك الحقوق المدنية في ستينيات القرن العشرين، وحرب فيتنام، وهجمات الحادي عشر من سبتمبر وعند بداية الوباء. في أوقات الأزمات والاضطرابات التاريخية، يسهل الشك في أن الكتابة الجيدة يمكن أن تساعد في إصلاح الكثير من عِلل العالم. لكنني كلما وجدت نفسي تائها، أو غاضبا، أو موجوعا، أو حائرا، يكون الجواب على كيفية اجتياز ذلك واحدا: ضع القلم على الورقة.

ومن واقع تجربتي، تستوجب الكتابة الجيدة أربعة أشياء: دقة اللغة ـ ولعلها الأهم على الإطلاق ـ وحرية قول أي شيء، والاحترام، والحب ـ ولعله الأهم على الإطلاق. ولا تختلف مسؤوليات الكاتب اليوم في كثير أو قليل عن مسؤوليات أي كاتب في أي عصر. لكن حضور الرئيس المنتخب دونالد ترامب وشخصيته وسلطته الكبيرة الراهنة تجعل الوفاء بهذه المسؤوليات جميعا أشد صعوبة وإلحاحا.

الدقة والحرية والاحترام والحب: هذه الخصال غائبة تماما عند ترامب وفي رؤيته لبلدنا. فشعاره «أرجعوا عظمة أمريكا من جديد» على سبيل المثال غير دقيق عمدا. فما معنى «العظمة» أصلا؟ أن تكون أغنى؟ أقوى؟ فماذا عن أن تكون أرحم؟ لا أظن.

الحرية؟ لقد أعرب عن احتقار سافر للنظام الديمقراطي واقترح النكوص على الحريات من شتى الأنواع، من حرية المرأة في اتخاذ القرارات بشأن جسمها وحتى حرية المهاجر في طلب الحلم الأمريكي والاحترام؟ شتائمه العنصرية تنطق في وجوهنا. والحب؟ صحيح، فعلا، لا يبدو عنده من حب إلا حبه لنفسه.

بتولي شخصية مثل ترامب مسؤولية بلد، تزداد كثيرا أهمية أن نبدي، نحن المواطنين، هذه الخصال بأنفسنا، وأن نجليها نحن الكتّاب في عملنا.

ولكن كيف ذلك؟

لنبدأ بالدقة: الفارق بين الكلمة شبه الصحيحة والكلمة الصحيحة مثلما قال مارك توين هو كالفارق بين حشرة البرق [نوع من الفراشات] والبرق نفسه. والسبب البسيط لكون الدقة ضرورة للكتابة هو أنها تتيح لكل من الكاتب والقارئ فهما واضحا مشتركا. وغالبا ما يصفو ذلك إلى العثور على الاسم الصحيح. ولقد وصف إيمرسن الأسماء بأنها «أشياء اللغة الناطقة». والقاعدة الصحيحة هنا هي أنك إن احتجت إلى ثلاث صفات لتعيين شيء ما، فأنت تستعمل الكلمة غير الصحيحة لهذا الشيء.

على المرء أن يتحرى الدقة في جميع مظاهر الكتابة. على المرء أن يؤثر الترقب على الدهشة. قد تكون الدهشة مثيرة لكنها إثارة رخيصة. وكثير من أفضل الأعمال الأدبية تبلي أحسن البلاء دونما دهشة. فمنذ أولى سطور «هاملت» نعرف أن الأمير سوف يموت قتيلا. ولكننا نشاهد المسرحية المرة تلو المرة لنرى كيف ستمضي به الحياة إلى نهايته المحتومة.

عن الحرية: يعتمد الكاتب على الحرية التامة في أن يكتب ما يريد أن يكتب، ويقول ما يريد أن يقول، بأي شكل يختاره. والحرية هي التي تمنح الكاتب السلطة أو هي على حد تعبير فاكلاف هافل «سلطة المحرومين من السلطة».

حرية المرء الأساسية في أن يحكي قصة على أي نحو يشاء. قصة القصيدة، أو قصة المقالة، أو الرواية أو الرواية القصيرة أو المسرحية. مهما يكن القالب، تظل للقصة أهمية فائقة لدى الكاتب. فنحن في نهاية المطاف سلالة حكائين. نحب أن نكرم أنفسنا بوصفنا السلالة العقلانية، لكن في ضوء كثير من سلوك البشر، باتت هذه طرفة سخيفة. إنما نحن سلالة سردية.

لقد علم اليهود في آخر أيام الجيتو في وارسو أنهم منتهون إما بالدفتيريا أو بمعسكرات الاعتقال. ومع ذلك كتبوا قصائد وقصصا ورسائل، وجعلوها لفائف رشقوها في جدران الجيتو. علموا أن كتابتهم إذا ما اكتشفها الجنود النازيون فسوف يهزأون بها ويقضون عليها. ولم يكن لذلك من أثر. كان لديهم قصة عليهم أن يحكوها. وكان لزامًا عليهم أن يحكوا القصة. وانتهزوا نزر الحرية المتاح لهم ففعلوا ذلك.

عن الاحترام: في رواية «ميدل مارش» احترمت جورج إليوت شخصية إدوارد كازوبون متجمد العقلية عديم الإحساس حتى وهي تدينه لقسوته على دوروثي. كما احترم فيتزجيرالد هوس جاتسبي وإن تسبب في سقوط جاتسبي.

والكاتب يحترم جميع شخصياته؛ لأنه يدرك أننا كلنا معيبون، وأن كل الناس يفشلون. ويحترم كل وجهات النظر، حتى أشدها بغضا. والكتاب ممثلون للبشرية كلها وإذن فهم مرغمون على أن يعاملوا كل شخص وفكرة وصورة معاملة منصفة كريمة. فحتى شخص مثل ترامب الذي يختلف معه كثيرون (وأنا منهم) قلبا وقالبا لا بد في عيني كاتب أن يكون مثيرا للفضول بل وللتعاطف. ففي قصة «الصلصال» لجيمس جويس شخصية جو الخائن الغبي العدواني الخطير، ولكن جو هذا هو الذي يمنحه جويس إشراقة البكاء.

وأخيرا الحب، حب المرء لشخصياته، وللغته، ولأفكاره وصوره، ولقرائه، وللعالم بأسره.

وبدلا من النظر إلى العالم باعتباره ساحة للتنافس، يرى الكاتب العالم جمعا غفيرا من الناس، كلهم مشتركون في شعور بالدهشة، وفي مخاوف وأحلام متماثلة، وأحزان واحدة.

يفهم الكاتب أن كل من يقابلهم إنما يحملون العبء نفسه. ويشعر الكاتب بذلك العبء، في ماديسون بولاية ويسكونسن، وفي سانتياجو بتشيلي، وفي موسكو وبكين، ويحب كل من يحتملونه.

ونرجع مرة أخرى إلى ترامب والمناخ الذي يحتمل أن يرسخه. ما من دقة في فكر أو لغة. وحرية محدودة لا سيما للنساء. وما من احترام لأحد، أو لشيء في واقع الأمر. وما من حب إلا حب النفس.

هل يمكن أن ينجو الكتَّاب، وأن يزدهروا، في مناخ كهذا؟ خير لنا أن نفعل.

ولكي يحدث هذا، فإن فكرة الحب لا بد أن تشمل الشعب الأمريكي، الشعب كله، وليس أولئك الذين صوتوا لكامالا هاريس وحدهم.

ومهما يكن السبب في انتصار ترامب، فالحقيقة هي أن ترشحه صادف هوى لدى الكثيرين. وعمل الكاتب والتزامه يفرضان عليه أن يفهم سر ذلك الانجذاب، وأن يحفز ما أطلق عليه الكاتب إتش إل مينكن «الروح الداخلية» محاولا أن يقابل تلك الروح في محبة.

روجر روزنبلات مؤلف كتاب «ما لم تحرك قلب الإنسان: فن الكتابة وصنعتها» [Unless It Moves the Human Heart: The Craft and Art of Writing]

خدمة نيويورك تايمز

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق