تشكل المنظومة التشريعية إحدى أهم ركائز العمل الوطنية الممكنة لـ«رؤية عُمان 2040»، ولذا حددت أولوية (التشريع والقضاء والرقابة) ضمن أولويات الرؤية هدفًا استراتيجيًا مهمًا ومحوريًا بوجود «تشريعات مرنة، وسلطة تشريعية مستقلة ذات صلاحيات كاملة»، وهو ما يطرح في تقديرنا أربعة أسئلة رئيسية: أولها كيف يمكن أن تتواكب المنظومة التشريعية مع أنماط وتغيرات الواقع الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والسياسي المعاش، بحيث تكيف إجراءاتها وأنظمتها وعملياتها لصياغة تشريعات مرنة ومواكبة وأكثر قدرة على الديمومة بمرور الوقت وتعاقب الظروف؟ والسؤال الثاني: هل من استحقاقات جديدة على مستوى المهام والصلاحيات يجب أن تكتسبها المنظومة لتكون قادرة على اكتساب هذه المرونة؟ أما السؤال الثالث: فهو يتصل بالمؤسسية: فكيف تتكامل الأدوار المؤسسية في المنظومة التشريعية لغرض تحقيق تلك المرونة التي نشير إليها؟ وآخر تلك الأسئلة: ما هي الخصوصيات التي تفرضها الحالة المحلية التي تشكل تحديات أو فرصا أمام منظومة التشريع لاكتساب تلك المرونة؟ تلك أسئلة تدور في مدارات الرؤية، وفي تقديرنا يجب أن تشكل هواجس وطنية في لحظة الرؤية الراهنة، وقد يكون السؤال لماذا؟ بإيجاز فإن نمط التغيرات العالمية يفرض اليوم تعاملًا مختلفًا مع آليات اقتراح القوانين، وآليات صياغتها، وآليات المشاركة المجتمعية والمؤسسية في إعدادها، وكذا آليات تطبيقها، ومن ثم التفكير في آليات منهجية على المستوى الوطني لقياس أثرها واستحقاقاتها. فعلى سبيل الواقع البيئي تفرض قضايا الاستدامة ومواجهة حالات تغير المناخ والأشكال الجديدة الطارئة من الظواهر البيئية والمناخية، والآثار المجتمعية والاقتصادية لتدهور النظام البيئي فرض قوانين مواكبة، وسريعة الاستجابة، تضمن للدول وللأفراد والمجتمعات التكيف مع هذه الحالات، وتحقيق الاستباقية في مواجهتها، وكذا الحال بالنسبة للسياسات الاجتماعية، بما تفرضه سياقاتها من تعامل مع مشكلات لحماية الطبقات المعوزة في المجتمعات، وتمكين الفئات الأكثر احتياجًا للتعاطي الآمن مع واقعها الاقتصادي، والتكيف مع حالة انتقال بعض المجتمعات من مجتمعات الرعاية الكاملة، إلى مجتمعات المشاركة والتخصيص وما قد ينشأ عن ذلك من مشكلات وظواهر قد تكون متوقعة ومقدرة وقد تكون خلاف ذلك.
كذا الحال يساق اليوم إلى أوجه الاقتصاد والمال؛ فمن القضايا الناشئة على سبيل التغير قضايا التكنولوجيا المالية والعملات الرقمية، ومنها كذلك ظهور مشكلات البطالة الهيكلية والتغير في الأسواق، ومنها ما تفرضه العولمة الاقتصادية والتجارية على النظم التشريعية الداخلية للدول من تغيرات واستحقاقات يفترض من خلالها اكتساب المرونة والتفكير في آليات التحول، ويمكننا أن نضرب عشرات الأمثلة في قضايا المجتمع والتقنية والثقافة والتربية والإعلام وسواها مما يتوجب اليوم التفكير في آليات تشريعية تحقق المغزى الأسمى من التشريع وهو تنظيم العلاقات وحماية الحقوق والواجبات بين الأفراد بعضهم ببضعهم وبينهم وبين النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية التي ينشأون فيها ويعيشون معها. وهو ما يقودنا هنا بشكل مباشر إلى القول: إنه في الحال المحلية هناك أربعة استحقاقات يمكن التفكير فيها بالنسبة لمنظومتنا التشريعية، وهذه الاستحقاقات تشكل حسب رؤيتنا بعض الممكنات التي تساعد المنظومة في تحقيق مرونتها وهي:
1- التفكير في إيجاد آليات مؤسسية ومركزية لبيئة التشريعات التجريبية.
2- التركيز على منظومة قياس وتقييم الأثر اللاحق للتشريع وإيجاد منهجيات وطنية ومؤسسية لتحقيق ذلك.
3- التفكير في منهجيات (سيناريوهات التشريع).
4- إضافة أبعاد تتعلق بدور التشريع في تحقيق السمة الوطنية عند إعداد التشريعات والقوانين.
ففيما يتعلق بالتشريعات التجريبية فقد أوجدت الكثير من الدول منهجيات ومراكز متخصصة تعنى بمساعدة الحكومات على تجريب بعض التشريعات المقترحة في بيئة محكمة ومراقبتها قبل إنفادها وتعميمها على الفئات والمجالات المستهدفة، وقد ساعد ذلك في التنبؤ مسبقًا بآثار التطبيق، ومعرفة الفجوات والعوارض الناشئة عنه، وبالتالي التحقق من جدوى وإمكانية تطبيق التشريع، ومن أهم الدول التي نجحت في هذه المجالات سنغافورة وخاصة فيما يتعلق بالسياسات المرتبطة بالبحث والابتكار، وهولندا وخاصة فيما يتعلق بالسياسات البيئية وقضايا الصحة العامة. وقد فصلنا في هذه المسألة في مقالة سابقة عبر نفس المساحة. أما فيما يتعلق بالتركيز على قياس وتقييم أثر التشريعات فنعتقد - إضافة لكونه دور تشاركي - أنه من الجيد أن يقوم مجلس عُمان باستحداث إطار عام ضمن اختصاصاته وآليات عمله يعني بوضع منهجيات مناسبة زمنية وتحليلية لقياس أثر التشريع بعد التطبيق، وأن يكون هذا المشروع مشتركًا مع السلطة التنفيذية والمؤسسات والأفراد من الخبرات في هذه الجوانب، مما سيسهل ويساعد كلا الطرفين مؤسسة التشريع ومؤسسة التنفيذ في فهم محكات تطبيق القوانين وما قد ينشأ عنها من آثار، وبالتالي معرفة ممكنات استدامة القوانين. وفيما يتصل بسيناريوهات التشريع، يمكن الاستفادة من منهجيات استشراف المستقبل لوضع عدة سيناريوهات للتشريع المقترح، سواء من خلال المواد أو الموجهات، وتتبع ما قد ينشأ عنه من افتراضات، وصولًا للسيناريو الأمثل، بناء على الموجهات التي تفيد بها علوم استشراف المستقبل، وخاصة للقضايا المرتبطة بالتقنية، والعلوم التطبيقية، والنواحي البيئية.
ومن النقاط المهمة التفكير في دور القوانين في تعزيز السمة الوطنية، حيث تسعى كل الدول اليوم في جزء من عملية صياغتها لقوانينها وتشريعاتها إلى إضفاء سمة وطنية معينة لها، كأن تكون في الشق الاقتصادي بأنها قوانين معبرة عن بيئة استثمارية جاذبة وحرة ومكتملة الفاعلين، أو تكون في الشق الاجتماعي قوانين تضمن التماسك الاجتماعي وتقوي التضامن وتحمي منظومات الهوية والقيم، وهكذا بالنظر إلى توازي المسؤولية الوطنية للقانون عبر تنظيم المجال الذي يستهدفه، يضفي القانون أيضًا عبر مواده المستحدثة وموجهاته طابعًا وطنيًا يعزز تنافسية البلاد، ويتماشى مع الاتجاهات العالمية، ويضيف عناصر نسبية تميز البلاد في الحقول التي تتقاطع فيها مع محيطها سواء الإقليمي أو الدولي. ونستطيع القول إن هذه أفكار موجزة نعتقد أن من شأنها إكساب شيء من الديمومة والمرونة لمنتج المنظومة التشريعية وكذلك توحيد النهج فيما يتصل بقياس ومراجعة أثر التشريعات القائمة وملاءمتها للواقع والمستقبل.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان
0 تعليق