تُعد الثقافة أحد أهم محركات التنمية والتطوير وتوجيه المجتمعات؛ فهي رافعة محرِّكة ومنظِّمة للتنمية البشرية، من حيث قدرتها على إنتاج التوجهات الجديدة التي تواكب التطورات والمتغيرات، وإمكاناتها على إعادة تشكيل تلك التوجهات بما يتناسب مع خصوصية المجتمعات، وقدرتها على الإنتاج الفكري والإبداعي الذي يحمي الأصول الثقافية والحضارية.
ولهذا فإن المجتمعات تحرص دوما على إنتاج ثقافة جديدة تتناسب مع الموروث الحضاري التاريخي، الذي أسَّس أبعاد الهُوية الوطنية، وشكَّل قدرتها على الخصوصية والتميُّز في ظل المتغيرات التي أحدثتها تيارات العولمة. إن تلك الخصوصية جعلت من المجتمعات ذات طابع إنساني متفرِّد ليس من حيث القيم واللغة والعقائد وحسب، بل أيضا قدَّمتها باعتبارها أحد أبرز أهداف الوجود الإنساني الطامح إلى التحقَّق والتفرُّد في ثقافته وقدرته على البقاء والديمومة.
إن الثقافة تعبِّر عن الأوطان، لذا فإنها تُحفظ وتُحمى وتُصان، من أجل أن تكون قوة قادرة على النمو والتصاعد؛ فالثقافة بمكوناتها الأساسية المتشعبِّة، المعبِّرة عن المجتمعات، تشكِّل أساسا لبناء تلك الأوطان، وواجهة يُتفاخر بها أمام العالم. إنها تلك الإمكانات التي تكشف العمق الحضاري والتاريخي من ناحية، والفرادة الفكرية والإبداعية من ناحية أخرى، الأمر الذي يجعلها قوة نافذة، صامدة أمام المتغيرات الطارئة، لتمثِّل واجهة المجتمعات ونافذتها المطلَّة على العالم، والتي تقوم بدور الوسيط الحضاري الذي يعرِّف بها ويقدمها باعتبارها قوة سياسية وحضارية لها كيانها وخصوصيتها.
ولهذا فإن الأنماط الثقافية والحضارية تقوم بدور أساسي في بناء الدبلوماسية الثقافية، التي تظهر دوما ضمن العلاقات الدولية، وتقوم بأدوار حيوية متعددة، تنبع في الأصل من القيم الإنسانية العامة، وتقدير القواسم المشتركة التي تجمع بين الأمم؛ بحيث تجعل من الأنماط الثقافية مساحة واسعة للتبادل الحضاري وأساس للتفاوض في كاف المجالات، لأنها تقوم على الدوافع الإنسانية التي يتخلَّق بها المجتمع وينقلها معه أينما رحل، سواء في معاملاته أو زياراته أو تبادلاته المعرفية المختلفة.
إن الدبلوماسية الثقافية تقوم على مجموعة من المرتكزات التي أساساها (الصورة الذهنية)، التي تريد الدول تسويقها فيما بينها، والتي تؤثِّر على السلوك المتبادل بينها، وعلى المعاملات الدولية، والعلاقات والتبادلات المشتركة في كافة المجالات، وبالتالي فإن هذه الدبلوماسية لا تقوم على النقل المباشر للثقافة والحضارة، والتأثير في الآخر من خلال أنماط الثقافة المختلفة مثل الآداب والفنون وغيرها، بل أيضا تقوم على تلك الممارسات التي نجدها غالبا من تظهر ضمن مجموعة الضوابط الرسمية (البروتوكولات)، التي تُقدَّم في المعاملات الدولية والزيارات الرسمية.
إن الزيارات الرسمية المتبادلة بين الدول، تقدِّم نمطا أصيلا للثقافات الإنسانية، التي تعبِّر عن حضارة الدول وعمقها التاريخي، فهي ببرنامجها وأنماطها وضوابطها تشكِّل نوعا من الدبلوماسية الثقافية، إذ تقدِّم صورة واضحة عن المجتمع، ونظامه الوطني المتمثِّل في الأنماط التي يُظهرها للوفد الزائر؛ فنظام الاستقبال ومراحله، وبرنامج الزيارات، والاحتفاء بالضيوف والكرم، والهدايا المتبادلة، وغير ذلك كله، يشكِّل نمطاً ثقافيا قادرا على بناء علاقات وثيقة بين الدول؛ فهو نظام قائم على الدبلوماسية الثقافية وإمكاناتها في توطيد العلاقات الدولية.
ولعل هدايا السلاطين والملوك وأوسمتهم المتبادلة منذ القِدم وحتى اليوم، تمثِّل شكلا من أشكال تلك الدبلوماسية؛ فهي تعبِّر عن الأوطان وحضارتها من ناحية، ورمزية بناء العلاقات المتبادلة القائمة على الصداقة والمودة والدعوة إلى السلام من ناحية أخرى، ولهذا فإن الدول تحرص بأن تكون تلك الهدايا معبِّرة عن ثقافتها الوطنية وعراقة تاريخها الحضاري، ذلك لأن هذه الهدايا لا تقدَّم للحكَّام بشخصهم بقدر ما تقدَّم للدولة باعتبارها كيانا دوليا وسياسة تقوم على بناء العلاقات في كافة الأصعدة.
إن تلك الهدايا والأوسمة تعكس العلاقات المتينة بين الدول، إذ تنبع من فعل المودة والاحترام المتبادل، وتُظهر قدرة تلك الدول على البناء التنموي المشترك بينهما، واتفاقهما على المبادئ والأُسس التي تجمع بينهما، وتقدِّم صورة واضحة عن عمق علاقاتها التاريخية، لتنطلق نحو آفاق جديدة من التبادلات والاستثمارات والتنمية التي تنعكس آثارها على شعوبها ورخائها وازدهارها.
والمتابع لزيارات جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه- إلى العديد من الدول، التي كان آخرها زيارة الدولة إلى مملكة بلجيكا، يلحظ تلك الأسُّس الحضارية والثقافية التي تُظهر عُمان باعتبارها قوة تاريخية ضاربة في القِدم، كما تعكس المكانة التي تحظى بها بين دول العالم؛ فهذه الزيارات ذات الأهداف التنموية القائمة على الرؤية الثاقبة لمستقبل العلاقات الدولية، وإمكانات الاستثمار والتبادلات العلمية والتجارية والثقافية وغيرها، تُبرز من جهة أخرى القوة الناعمة لمبادئ السلام والمحبة والحوار البنَّاء التي تتميَّز بها عُمان.
ومن بين تلك الأنماط الثقافية التي تحضر دوما في الزيارات الرسمية لجلالة السلطان، أو لزيارة السلاطين والملوك إلى عُمان، هو تبادل الهدايا بين جلالته حفظه الله وملوك وسلاطين وحُكَّام الدول، التي تعبِّر صراحة عن تلك الدبلوماسية والقوة الناعمة التي تحرص عليها الدولة في علاقاتها مع العالم؛ فهي هدايا قائمة على الفكر الثقافي والموروث الحضاري، الذي يرسِّخ عمق الدولة وتاريخها الحافل؛ إذ نجد السيوف والخناجر والتُحف الفنية وغيرها حاضرة ضمن الهدايا، ناهيك عن تلك الأوسمة التي تمثِّل رموزا تاريخية لها مكانتها الثقافية والسياسية التي تدعم قوة العلاقات بين الدول.
ولعل حرص الدولة على إظهار عراقة ثقافتها وتاريخها خلال جدول الزيارات الدولية، يمثِّل أحد تلك الأنماط الثقافية التي تندرج ضمن أفق الدبلوماسية الثقافية؛ فالزيارات الرسمية الدولية الأخيرة التي قام بها جلالة السلطان حفظه الله ورعاه، سواء للجمهورية التركية أو لمملكة بلجيكا، قدَّمت نمطا ثقافيا لتلك الدول من خلال زيارة جلالته إلى (قاعة مدينة بروكسل)، و(مركز الملكة إليزابيث الموسيقي في إقليم والونيا) في مملكة بلجيا، وزيارة (النصب التذكاري لضريح مصطفى أتاتورك مؤسس جمهورية تركيا)، و(مكتبة الأمة في المجمع الرئاسي التركي) في جمهورية تركيا، تمثل نموذجا من تلك الأنماط الثقافية التي تكشفها الزيارات الرسمية لأهمية الثقافية، ودورها باعتبارها قوة ناعمة.
وكم هم الملوك والحُكَّام الذين زاروا المتاحف العمانية، وقاعات دار الأوبرا السلطانية ومسجد السلطان قابوس الأكبر وغيرها من المعالم الثقافية في عُمان، باعتبارها صروحا تشهد على الحضارة العمانية والثقافة الوطنية التي تشكِّل القوة الناعمة القادرة على الولوج إلى الفكر الحضاري المعرفي، وتقدِّم قيمة دبلوماسية ذات أبعاد معرفية طويلة الأمد. إنها الواجهة الحضارية التي تقدِّم الثقافة باعتبارها عمقا تاريخيا للمجتمع.
إن الأنماط الثقافية المتمثِّلة في أنظمة الزيارات الدولية تكشف سياقا سياسيا وفكريا عميقا، له خصوصيته وفرادته، وإمكاناته في بناء علاقات دولية متينة قائمة على الحوار والسلام والاحترام المتبادل من ناحية، وخصوصية ثقافية من ناحية أخرى، تُبرز أهمية تلك الزيارات وقدرتها على توطيد السياسات والتعاونات الدولية والشراكات القائمة على المبادئ والمنافع للدول وشعوبها.
عائشة الدرمكية باحثة متخصصة فـي مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة
0 تعليق