في مأزق الوعي العربي .. «الطائفية» التوظيف السلبي للذاكرة - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لا يؤدي تفسير النتائج إلى بديهيات في العادة، فالممكن لأي عملية بحثية أن تتجه تحت ضغط فرضياتها إلى اصطناع نتائج تتباين بسبب من الطبيعة المنهجية التي تتم بها معالجة عمليات البحث في العلوم الإنسانية، ولذا فإن محاولتنا القيام بتحليل وظائف البنى الاجتماعية ينبغي أن تتجه بالدرس أولا إلى اختبار الفرضيات ذاتها، قبل القبول بهيمنتها وادعائها الاستقلالية كونها تصور لنا فقط الجانب النظري المجرد من القضية، وفي ذلك باتت العلوم الإنسانية تميل أكثر إلى مضاعفة عمليات الاستقراء حول الموضوع قبل الاستسلام للمنهج، وفي مقالنا هذا نريد أن نختبر فرضية تكامل حضورها في مقولات عابرة للوعي، وهي مقولات تنتشر بصورة واسعة داخل أطر النظر الفكري في الدرس الاجتماعي العربي، وهي مقولة: «الطائفية» وكأننا هنا أمام مفهوم مستقل تَكْوُن عبر استعارات منظمة ما سمح له في النهاية أن يملك تعريفه الخاص، وهنا مكمن الأذى.. كيف؟ لنرى...

إنه ليس من الممكن إنكار حضور الأذى من الطائفية في المجتمعات العربية، ولكننا واقعون في خطأ محاكمتها مسقطين عليها جملة من الاتهامات فقط لأنها ظلت تملك فاعليتها الخاصة وبالتالي تؤدي وظائف متعددة وبعضها قد لا يكون ضمن نطاق دورها، لكننا وحين نُفَعِل عمليات التجريم نرتكب خطأ فادحا، ذلك أننا نعتقد بامتلاك الحق في مساءلة أي بنية اجتماعية فقط كونها حاضرة وفاعلة، ونحن غير مبالين بالنظر أعمق للأسباب التي تجعل من بنية موصوفة بالتقليدية تعيش حيوات مستمرة في ظل حداثة مزعومة نقول بحضورها في الفضاءات المتعددة، والذي يغيب حقا هو أننا لا نعرف أن سلاسل التَخْلُق في الواقع الاجتماعي هي بمثابة صيغ رياضية تصدر نتائجها حسب العلاقات القياسية التي تقوم بين أطرافها، وهنا فإن بقاء هيئة أو مؤسسة اجتماعية حية ومتوفرة على الفعل لهو نتاج طبيعي لإخماد نشاط المتغيرات، وتَعَطُل قواعد العلاقات المنتجة للفعل، فهل نحاسب الطائفية على غشيانها دُور ليست من ضمن شغلها؟ أم ننظر أكثر في الأسباب التي تمدها بأسباب للحياة رغم زعومنا المتكاثرة أننا مجتمعات أصابت قدرا من الحداثة وتخلصت من التقليدية التي تجعلنا نعيش الماضي في الحاضر؟ والحقيقة أن المجتمعات التي تعجز عن فهم طبائع علاقاتها هي الأكثر عرضة للإصابة بالتفكك نظرا لغياب حساسية التفسير وانغماس فاعليها في التفسير لا التحليل، ما أقعدهم عن تحديث الواقع ومواجهة مشكلاته.

إن الطريقة التي يعرضها الباحث الاجتماعي في وصم المجتمع أنه لم ينجو بعد من تراثه، لهي طريقة تعاني من عمليات تمثيل مؤسلبة لا تملك إلا التعييب والإشارة فاقدة الحيوية، لأنه ليس مطلوبا من عالم الاجتماع أن ينكب على الوصفية كحالة علمية للفهم، فهذا دور فضائحي في أغلبه ولا ينتج شيئا في الواقع، إن المهمة الرئيسة له أن يكون قادرا على استكناه الحادثة في معرض بحثه لا أن يجعل منها برادايما محصنا من التجريب، إن دوره القيام بتفكيك التجربة لصالح تخليصها من طقسها الذي يمارس سلطانه على التفكير للدرجة التي أحالت الفاعل الاجتماعي إلى مجرد مُعَرِف بالحالة لا محللا لها وناقدا لتهافتها، ومن ذلك أيضا ما ذكرنا من التضحية بالمفهوم لأجل الموضوع، وقولنا بأن الأزمة الاجتماعية في الوطن العربي تعود لتسيُّد أنماط متخلفة من العلاقات على الظاهرة ما أقعد بها وعَطَّل فيها إمكانية التحديث والعصرنة، إن الأمر ليس بهذا التبسيط، فما يجري هو تقصير ظل الوعي بجعل البحث ليس سوى مظهر لطقس أكاديمي يفرض نفسه على الفضاء الإنساني دون أن يعترف بقصوره الذاتي، ودونك غياب فاعلية الكليات والأقسام الجامعية عن الإدلاء بقول فصيح في الواقع والاكتفاء ببناء تجسيدات مثالية مفارقة ولا تملك سوى وضع علامات مؤقتة في طريق البحث ليست بذي فائدة مرجو منها القيام بإصلاح الواقع والتمهيد لتطويره.

إن ما نلحظه من غياب البحث في الواقع بالذات المتصل بالعلوم النفسية والاجتماعية والاقتصادية يعود إلى تجنب بناء مناهج من داخل الظاهرة وليس من أعلى، وهذا ما جعل الكثير من التحليلات المقدمة ناحية فهم الإنسان في واقعنا العربي ليست إلا رسوما كاريكاتورية عن الحقيقة، وأقوال المتمدرسة من أكاديميينا ما هي إلا خيارات نرجسية لا تتصل بالواقع، ولأن موضوعتنا تتعلق بإدانة الطائفية كونها تتصرف في الفرد وتعيد تشكيل دوره بطريقة لا تسمح لإرادته الفردية بالاستقلال فعلا، وهي إن فعلت ذلك فإنها غيبت عنه حق الاختيار، وسجته كالميت بين يدي غاسله كما في مقولة الإمام الغزالي، ونقطتنا هي أن النقد الموجه لأي شكل تقليدي في المجتمع هو نقد لا يتجاوز التعريف الكلاسيكي لمعنى النقد في القاموس العربي، أي أنه عملية تمييزية فقط وليست معرفية، ومن هنا فدعوتنا أن يتأسس بحث اجتماع عملي لا يشغله التعميم عبر تعريف القضية والسكوت عن شراكات أخرى تسهم في بنائها، ولذا فإن نقد التقليدية في السياق الاجتماعي وتحميل أفراد المجتمع مسؤولية تراجع التطور في البنية العامة فإنه لأمر لا يعدو كونه تعطيل ممنهج للتطور ذاته، بسبب الطَرْق المستمر على الأزمة لا البحث في أفق الحل واستنجاح التجارب عبر الفحص المدروس والمستمر للوعي ووظائفه. والحقيقة أن ما من خطر أكبر على المجتمعات من الطائفية.. فهي البنية التي تستطيع أن تستقطب أكثر مناطق الوعي انغلاقا وتمارس تأثيرا مخربا للوجدان، وهذا ما يجعل منها عصبية مركبة قادرة على تكسير كل تمثيل وطني للدولة، كونها أعلى درجات التعصب وأكثرها تهديدا للنسيج الاجتماعي. والحل سياسات ثقافية تحيي الحوار وتضبط الزمن الاجتماعي وتحفظه من التوظيف السلبي للذاكرة التاريخية.

إن الذي يشغلنا حقا ونحن نرنو إلى واقع عربي أكثر نضجا في مواجهة نفسه، أن تطور المؤسسات البحثية أدواتها وهي إذ تفعل ذلك تقدم الفائدة المطلوبة من عملها، ونحن نؤمن إيمانا ثقيلا بأن جملة مشاكل الواقع العربي لا تعود إلى هيمنة البنى التقليدية فيه بقدر عجزنا عن فهم أسباب استقرارها رغم الادعاء بحالات من التقدم في الظاهرة الاجتماعية ككل، إننا نرنو إلى سيسيولوجيا عربية فاعلة وقادرة على بناء مجتمعات عربية متماسكة وقادرة على تمدين حاضرها بالصورة التي تحفظ لهذه الأمة كيانها وتحقق لمجتمعاتها الاستقرار وتحصنها من التفكك، وتطرح في شرايينها دماء من وعي نافذ ومبصر للتحديات.. وأولى شروط هذا الوعي هي تمتين الانتماء وتحصين الفرد الاجتماعي من التخريب.

غسان علي عثمان كاتب سوداني

أخبار ذات صلة

0 تعليق