يحتل مفهوم الـ«كم» في الثقافة الشعبية قدرا كبيرا من الاهتمام، ويظهر ذلك في كثير من الممارسات، على مستوى الفرد والمجموع، فالكم معناه الكثرة، والكثرة معناها القوة والغلبة، وحتى عهد قريب كان ينظر إلى من عنده أولاد كثيرون على أنه محظوظ، وذو منعة، وفي كل أحواله هو غني، ومن كثرت بناته كثر المنتسبون إليه من القبائل المختلفة، وبذلك أيضا يتعزز مقامه، وتكبر أهميته، ولذلك كان هناك من يسعى لأن يتزوج أكثر من امرأة - ليس لضرورة بيولوجية - إنما لتحقيق هذه الغاية، وهي إنجاب أكثر عدد من الأولاد والبنات، وقد قابلت شخصيا شخصا منذ سنوات، وقال مفتخرا إن عنده من الأولاد والبنات أكثر من عشرين فردا، جلهم خريجو الجامعات.
وتذهب الفكرة ذاتها عند آخرين إلى تحصيل الإكثار من الأموال سواء في شراء الأراضي الزراعية، أو السكنية، أو امتهان التجارة، وفي تقييم مثل هؤلاء أن المال الكثير يحقق الكثير، مفهوم الكم والكثرة لكل شيء، وإن استنفد الكثير من الجهد الذهني والمادي، وعند فئة ثالثة ترى أن التعرف على الناس، ومصادقتهم هو نوع من الفخر، وإن كلفه ذلك الكثير من مواقف العتب والرضا وبذل المال. فالمهم أن تتحقق الكثرة في جلب الأصدقاء، بمعنى آخر - ومن خلال هذه الأمثلة وغيرها - تحل الكثرة «الكم» كمشروع اجتماعي ينظر إليه بكثير من الاهتمام والأهمية بغض النظر عن الوسائل المستخدمة لجلب هذا الكم في كل معانيه ومناخاته حيث تدخل ثقافة المجتمع هنا بقوة في تأصيل هذه الرغبة الجامحة عند الأشخاص الساعين إلى تحقيق مفهوم الكم، وفي تقييم هؤلاء أن الكيف هو نوع من الترف غير المتوافق مع ثقافة المجتمع الذي يرى في الكم القوة، والنصرة، والتمكين، وبسط السيطرة، وقد نص القرآن الكريم عن موقف قوم النبي شعيب منه ومنعته من قومه في قول الله تعالى: (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول، وإنا لنراك فينا ضعيفا، ولولا رهطك لرجمناك، وما أنت علينا بعزيز) - الآية (91) من سورة هود - حيث «هددوه بقولهم: (ولولا رهطك لرجمناك) أي ولولا هذا النفر القليل الذين هم عشيرتك لرجمناك لكنا نراعي جانبهم فيك، وفي تقليل العشيرة إيماء إلى أنهم لو أرادوا قتله يوما قتلوه من غير أن يبالوا بعشيرته، وإنما كفهم عن قتله نوع احترام وتكريم منهم لعشيرته» حسب ما جاء في تفسير الميزان للطباطبائي وفق المصدر. ولنا في قول الشاعر جمال التأثير: «أنعم برهط هم كالدر كوكبة منا يحق لهم فخر وإعجاب».
وقد تصدر مفهوم الكم في الثقافة العربية، وعلى وجه الخصوص الاجتماعية في كثير من الأمثلة والحكم، ومنها: «الكثرة تغلب الشجاعة» و«الذئب بين كلبين ذليل» وهو ما يعزز من الأثر والقوة التي تنتج عنه أفعال وممارسات «الدهماء» على الرغم من القذف الذي تتلقاه الدهماء من ذات الثقافة الاجتماعية، وهي تقع في المعنى ذاته الذي يذهب إليه المصطلح الصحفي «عقلية القطيع» ويبدو أن مفهوم الكم في حالة الاسترخاء الفكري منتقد بقوة، وغير مرحب به كأسلوب لتسيير الكثير من فعاليات حياة الناس في المجتمع، ولكنه ضرورة ملحة في حالات العسرة، ولذلك نرى أهمية الكم في المظاهرات في مختلف عناوينها العريضة، وكيف أن هذا العدد الكبير من الناس يفرض أجندته على صاحب القرار، فيستجاب لمطالبه، «حقنا للدماء» إلا أنه ما يعاب على الكم العشوائية وعدم التنظيم، حتى على مستوى الفرد نفسه، الذي يرى - على سبيل المثال - أن كثرة الأولاد هو نوع من القوة، ففي تجارب المجتمع أن كثيرا ما تخرج هذه الأعداد عن سيطرة الأبوين، وتكون في أغلب الأحوال عبئا ليس ماديا فقط بل عبئا معنويا، فكثيرا ما تأخذ هذه الأعداد طرقا ملتوية عندما لا تستطيع الحاضنة الأسرية أن تسيطر على مختلف القوى الثائرة لدى هذه الأعداد، والمقصود بالقوة الثائرة هنا هي مجموعة الطموحات المستنفرة عند كل فرد من أفراد المجموعة، ومجموعة الآراء والمواقف، خاصة عندما يكون أحد طرفي الحاضنة (الأب/ الأم) على قدر بسيط من استيعاب تجربة الحياة، ومن هنا يأتي مبرر الطرف الثاني المنتصر للكيف، والذي يرى أن صناعة الذكاء لا يمكن أن يتحقق بوجود الكم، وهذا ما تذهب إليه بعض الأنظمة السياسية في الدول، وذلك من خلال تحجيم النسل، للفكرة الموجودة بأن ذلك يسهل في تنفيذ الكثير من السياسات التنظيمية الذاهبة إلى ترشيد الإنفاق فيما لا صالح فيه، والذهاب مباشرة إلى صناعة الندرة من الكفاءات على مستوى الدولة الواحدة، وأن العدد الكمي يخلق مشاكل كثيرة: اجتماعية، اقتصادية، ثقافية، سياسية، مع أن هذا التوجه أثبت فشله في كثير من تجارب الدول التي أخذت بهذا الأسلوب في المعالجات الديموغرافية، وواجهت مشاكل اجتماعية لا أول لها ولا آخر، حيث حاولت سد النقص في القوى العاملة من خلال جلب قوى عاملة وافدة، فأثرت ليس فقط على الجوانب الاقتصادية للدولة المستضيفة، بل تعدى ذلك إلى مشاكل اجتماعية، سلوكية ولغوية وقيمية مختلفة، وأمنية، وفوق ذلك كله خطورة الانتماء الوطني الذي لا ترى فيه هذه قوى العاملة الوافدة أي مسوغ يمكن أن يجبرها على ذلك، فهي حاضرة لجمع مزيد من المال في فترة قياسية قصيرة بالوسائل المشروعة وغير المشروعة وإن طالت الإقامة، والعودة إلى بلدها الأم، وبالتالي فما الذي يعنيها في البلد المستضيف؟ يقينا لا شيء.
تقتضي الضرورة أن تكون الحسابات الكمية مسلمات معيارية، ولكن ليس بالضرورة أن تكون الحسابات النوعية «الكيفية» حسابات معيارية لخصوصيات تكويناتها وخصائصها، ماذا يعني هذا القول؟ يعني أن الحسابات الكمية قابلة للانشطار والمقارنة، وأثرها على واقع الحياة ملموس، ولننظر إلى بلد عدد سكانها بالمليونية، هذه يمكن قياسها بالأخرى التي عدد سكانها بضعة عشرات من الآلاف، سواء من ناحية القوة التشغيلية «القوى العاملة» أو من ناحية الرهط، وأهميته في تعظيم القوة العسكرية وهذا أمر مهم حتى في العصر الحديث المعتمد على الآلة العسكرية الإلكترونية كما نرى اليوم في الحرب المتوحشة على الفلسطينيين التي تقوم بها الصهيوأمريكية، أو من ناحية تعدد وتنوع الأعراق، والمهن، وحتى الديانات، ومختلف الثقافات، ولأن الهند هي الأقرب للمقارنة بالنسبة لدول الخليج، نرى أن القوى العاملة من هذا البلد، مكتسحة الدول الخليجية على وجه الخصوص بينما مجموع سكان الدول الخليجية ربما لا يصل عدد سكان مدينة واحدة من مدن هذه الدولة، هل هرمت هذه الدولة بهذا العدد الرهيب من السكان؟ إطلاقا لا تزال تدفع بهذا العدد الكبير جدا من السكان إلى مختلف دول العالم، واليوم أصبح لهم صوت في القرار السياسي في كثير من الدول، والأمثلة كثيرة، بينما المنتصرون للكيف في المسألة السكانية لا يزالون يراوحون عجزهم المهني، وضعف طاقاتهم الإنتاجية، وارتباك مواردهم، لأن القوى العاملة الوطنية غير قادرة على استيعاب متطلبات برامج التنمية في الدول التي كانت تروج للكيف أكثر من الكم، والذين يقلقهم الكم ربما يتخوفون من مسألة استفحال الرغبة والشراهة، وهذه من متطلبات الكم الرئيسية، ولذلك نرى أيضا في تجارب بعض الدول أنه -وانعكاسا لهذه الرغبة والشراهة من وجود هذا الكم من عدد السكان- أن النظام السياسي لا يستطيع أن يلبي الحاجيات الأساسية لهذا الكم، وهذه الصورة انعكست سلبا على قناعات بعض الأنظمة الأخرى، ورأت أنه كلما قل عدد السكان، وصلت متطلبات السكان إلى مستويات الاكتفاء، وقلة الحاجة، واستراح النظام من الضغط الاجتماعي للجم الأفواه الشرهة، وهذه قناعات غير صحية على الإطلاق، ولعل لنا أن نتخذ جمهورية الصين مثالا آخر للتقدم العلمي، وهي الدولة التي تتصدر دول العالم في عدد السكان، وهي الدولة المتميزة في صناعة الذكاء، بفضل تنميتها لأفراد مجتمعها، وهي اليوم بلا جدال تملك كل قراراتها السياسية، والاقتصادية، وفي كل مجالات حياتها الأخرى، لأنها لم تسع إلى صناعة الغباء من خلال تحييد المتميزين والأذكياء من أبنائها، مع كثرة هؤلاء الأبناء.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفـي عماني
0 تعليق