«كل شيء على ما يرام»: هو عنوان أحد البرامج الإذاعية في إحدى قنوات أورماتشي بجمهورية الصين. الإذاعة التي تم إنشاؤها عام 2008 لتتحدث للإيجور بلغتهم بالتزامن مع إطلاق عدد من الإذاعات التي تبث للأقليات ومختلف العرقيات في مقاطعة شيانج الصينية. وذلك حين أدركت الصين أن ثم ما يجب أن يفعل حتى لا تجد نفسها تواجه خطر التقسيم مثل ما حصل مع روسيا الشريك السياسي والفكري. فوجدت نفسها في حالة مراجعة للموروث الأيدلوجي الذي حدد سياساتها الداخلية والخارجية وهي وإن بقيت أمينة لمبادئ الاشتراكية لم تمانع من مرونة في الانفتاح على الآخر وتبني بعض السياسات الجديدة في مجال الأعمال والمال على أقل تقدير.
وفق الرواية الصينية فإن كل شيء على ما يرام فيما يخص الأقليات والأعراق المسلمة فيها وأن ما انتشر حول ما يتعرض له المسلمون هناك ما هو إلا جزء من الدعاية الأمريكية وحرب الغرب على الشرق. هناك من أثار القلاقل في البلاد لأغراض سياسية بحتة في بلد يتطور، ويحترم الأديان فكان لا بد من قمع الإرهاب وإعادة الأمور إلى نصابها. والخصم الذي تتحدث عنه الصين خصم مشكوك في نواياه وفي مصداقيته فأقواله وأفعاله في مناطق المسلمين الأصلية شاهد عليه لا له.
لا يعنى المقال بتفنيد الرواية الصينية بشأن مسلمي الإيجور والبحث فيها، إنما يلفت الانتباه إلى هذه الصدامات الاقتصادية السياسية التي تحدث بين أقصى غرب العالم وأقصى شرقه ونجدنا لا محالة من أن نكون بينها وفيها. عن الصداقات التي يمكن أن تبنى على حذر لأن السياسة هي حقل التحولات والتحالفات ولأننا لا يمكننا أن نبقى حتى وإن أردنا على هامش الأحداث غير منحازين تماما وأبدا. هذا الأمر ثبت أنه غير ممكن فعليا وإننا وإن نأينا بأنفسنا عن التدخل في شؤون الغير وجدنا أن الغير هم نحن وما يحدث هناك يمسنا بالدرجة الأولى. لنفهم جوهر المسألة التي تطرح هنا لا بد من توضيح بعض السياقات المتعلقة بها: تشهد الصين تطورا هائلا لا يمكن إغفاله ولعلها حقيقة أنها وفق ما تعلن دائما لا تريد أبدا التورط في أي صراع عسكري من أي نوع لكنها أدركت منذ النشأة أنها تحتاج أن تكون دولةً قويةً عسكريًا واقتصاديًا لتتمكن من حماية مصالحها. تجربتها في مجال العلوم والتكنولوجيا والطاقة والاقتصاد تقدم نمذوجا يعني العالم العربي الاستفادة منه. هذه القوة الاقتصادية المتنامية بدأت تشكل هاجسا لدى الولايات المتحدة والصراع المستعر بين الجهتين في مجال التسابق التكنولوجي والتطور الرقمي ليس بخاف وربما يذكرنا بتاريخ التسابق على غزو الفضاء وسباق التسلح الذي بدأ مع بداية الحرب العالمية الثانية والذي استمر فيما يعرف بحقبة الحرب الباردة وما تلاها من أحداث سواء تلك التي حدثت لأقطاب الصراع أو تلك التي حدثت في العالم العربي والإسلامي لأن الصراع قد طاله. وقياسا على ذلك فإن الصين التي لا تسعى للهيمنة على العالم كما تقول ولا تعترف بأحقية وجود قوة عظمى واحدة تسيطر على الآخرين كما تريد أن تفعل الولايات المتحدة التي تنصب نفسها قائدا للبشرية فإنها في الوقت ذاته أدركت أنها تحتاج إلى مواقع سياسية استراتيجية تضمن إما اتفاقها معها في المواقف أو إن تطلب الأمر الدفع بها للاتفاق معها في المواقف لتخلق تشويشا وتشتيتا وتوجه ضربات اقتصادية وسياسية تلجم جماح غريمتها التي تناوشها في أكثر من موقع.
حروب الجيل الخامس الدائرة بين الصين والولايات المتحدة أدت إلى حالة من العرقلة ومحاولة السيطرة على سلاسل التوريد وقطع اتصالها. هذا التنافس كذلك دفع بالصين إلى محاولة اجتذاب العقول الصينية المهاجرة وفتح المجال للمهرة والموهوبين والعقول اللامعة للعمل في الصين. فعلى عكس الأمر الذي يحصل في الدول العربية مجملًا من استمرار نزف العقول وهجرتها. راجعت الصين سياساتها لإدراكها لحاجتها للاعتماد على النفس وأهمية رأس المال البشري. واهتمت بمراكز الأبحاث والتطوير والنشر العلمي وعملت على الربط بين الباحثين وقطاعات الصناعة وغيرها ودون أن تحسم حرب التكنولوجيا تستعر حرب العملات التي تتنافس على الشرق الأوسط وتسعيرة نفطه.
إضافة إلى هذا التنافس الحاد في المجالات الرقمية والذكاء الاصطناعي فإن لدى الصين بعض المشاريع الاقتصادية المقلقة للغرب ربما يأتي مشروع الحزام والطريق نموذجا واضحا لرغبة الصين بالتوسع تجاريا وإيجاد موانئ ومحطات وسبل للتعاون والتكتل الاقتصادي بما يحمي مصالحها. طبعا المشروع قوبل بمشروع مناوئ طرحته الولايات المتحدة على جمهورية الهند الخلاصة أنه عداء سياسي اقتصادي بين الولايات المتحدة وجمهورية الصين تتعالى حدته أو تخفت وفقا للعبة المصالح وتبعا لمقاربات الحكومات المختلفة. لكن في المجمل ما يعنينا أننا في منطقة العالم العربي قلب العالم وواحدة من مكامن المصادر والموارد وبقعة استراتيجية لا تخلو أبدا من الصراعات ورقة مهمة في هذه المعاكسات والمشاكسات التي بدأت حدتها تتزايد.
اقتراب أي من الطرفين منا ما هو إلا اقتراب مصالح. هي صداقات مشروطة وتتصل بها تبعات مستقبلية ما يحدد إن كانت لصالحنا أو لا هو قدرتنا على جعله بطريقة أو بأخرى أن يكون كذلك. إذ لا يبدو خيار الابتعاد والنظر بعيدًا متاحًا. أولا لأنه يربطنا بالدول الغربية والولايات المتحدة على وجه التحديد وِثَاق سياسي اقتصادي عسكري فرضته التوترات السياسية في المنطقة وصل حد الهيمنة ومؤخرًا نجد أن هناك مراجعات لهذه العلاقة خصوصًا في منطقة الخليج بدا جليًا أنها غير مأمونة وتعطل الكثير من رغبات التطور، لذا فالبحث عن مستقبل آخر وارد ولكنه ليس سهلًا أو مسموحًا وبالفعل مورست ضغوطات على بعض الدول حتى لا توجه وجهها بالكامل قبلة الصين.
ثانيا، الخلافات السياسية ذاتها أيضا خصوصًا مع الأحداث الأخيرة في غزة وحضور الصين داعمًا سياسيًا في بعض قضايا الشرق الأوسط ربما عزز رغبة البعض للبحث عن حليف يعين في ضبط توازنات القوى في المنطقة. لكنها ليست فقط الضغوطات الغربية التي قد تحد من هذا التعاون هي أيضا تلك المخاوف من محاولات الصين وهي قوة اقتصادية عملاقة جدا مقارنة بمن تقترب منهم. محاولاتها للتمدد عبر ضمانات للولاء الاقتصادي والسياسي تتمثل في شراء حصص استثمارات هائلة في تلك الدول وربطها بها بقروض مالية كبيرة. فهذه الشراكات التي تعقد معللة بالرغبة في مساعدة تلك الدول لتشارك في حركة التجارة والاقتصاد بفعالية وكسر هيمنة القطب الواحد قد تتبع لاحقا بتبعية اقتصادية وسياسية إن لزم مستقبلا حتى وإن استخدمت فقط لخلق التشويش والمضايقة والإرباك.
لكن ما هي الخيارات المتاحة لدى الدول العربية وهي التي لم تستعد عافيتها فعليا منذ نهاية الاستعمار الغربي وتستفيق بعد سلسلة من الأحداث التي أنهكتها وزعزعت المفاهيم والقيم المشتركة بينها وحولت فرص التعاون والتكامل إلى لعبة شد وجذب، وتبدو حدة حذرها من بعضها البعض لا تقل عن حذرها من العدو الذي لا تتفق جميعها حوله وعلى تسميته! هي مختلفة حتى في هذا. وغير مواردها الاقتصادية لا تملك حقيقة أي قوة أخرى. هي في لهاث لأن تقفز فوق سنوات التأخر لكنها عاجزة أن تفعل ذلك بالاعتماد كلية على الذات. على الجانب الآخر خصوم اليوم قد يجدون فرصة للتصالح. صحيح أنه لا يبدو في الأفق الحالي مجال للتقارب والتواد بين الولايات المتحدة والصين بعد الانتخابات الأمريكية الأخيرة. لكن السياسة اليوم هي عالم المفاجآت تحديدا مع شخصية مثل ترامب. مثل هذا التقارب قد يغير المواقف حتى تلك التي اتخذتها الصين مؤخرًا من إسرائيل.
لا مكان آمن لا في الحرب ولا في السلم إن كان الارتكان للآخر هو الحل. الهشاشة في مختلف مفاصل الحياة سياسيًا واقتصاديًا التي يعانيها العالم العربي مجملًا مع اختلافات بسيطة تحتم أن تكون ثمة مراجعات جادة للخطط ومسارات الأحداث. الداخل بحاجة إلى إعادة ضبط وربما كان أول ما علينا أن نأخذه هو جوهر الفكرة ذاتها ونبدأ في استعادة العقول وعدم التفريط فيها. نحن بحاجة لخطة تخصنا وليس لردود أفعال آنية تحددها الأحداث المتغيرة. ربما نفعل مبدئيًا ما فعلت الصين نستثمر في مناجم العقول.
0 تعليق