«ثمر غصن شجرة الرمان الذي انحدر صوب شقتكم من نصيبكم»، هكذا قالت الجارة، والأمر مُماثل لحبّات الأسكدنيا والمشمش. تلك القاعدة الصغيرة، كانت تكفي لأعرف طبيعة جيراني وأنا طالبة أدرس في جامعة حلب. تتركُ الجارة الأخرى طبقا من المحاشي أو الفتة أو الكبة قرب بابنا، أمّا صاحبة الشقة فقد كانت تقطفُ من شجرة اليوسف أفندي، لتصنع لنا عصيرا مُنعشا بينما نتفاوض على الإيجار.
هكذا ذهبتُ إلى سوريا وحصيلة زادي، الدراما السورية التاريخية والاجتماعية التي صنعت الوشائج الأولى بالمكان. هناك حيثُ وُلدت كل تجاربي الأولى، أول فيلم شاهدته في شاشة كبيرة ومذهلة، أول ستارة مسرح تنزاح لتكشف عن ممثلين، أول منصة أجلس إليها مرتجفة لأقرأ قصصي، أول مرّة أرتدي الزي العُماني لأقدم بعض حفلات الطلبة العرب. أما المكتبة العامّة الشاسعة فكانت رئتي.. رئة المدينة.. هناك جلستُ لساعات لم أدركها. لم أكن لأظن بأنّ الضوء سيصبحُ واهنًا في الشتاء الحلبي إلى ذلك الحد، وأن تراكم الثلوج سيشكلُ سطحا أملسَ، ولم أتصور أن يُصبح بإمكاننا أن نكور الندف ونقذفها في وجوه بعضنا. كانت فيروز أيقونة «السيرفس» الذي يُقلنا كل صباح إلى الكلية، أمّا العودة فتتخطفها عديد الأصوات الصاخبة. هكذا تدفق شلال الحنين إلى تلك البقعة من العالم التي مكثتُ فيها لأربع سنوات متتالية من عمري. حدث ذلك توقا لفرح ما، لانبعاث أمل عربي من تابوته، كما ينبعثُ جمر مستعر من تحت رماد الهزائم.
هنالك ذُهلتُ من شساعة التنوع البشري، الديانات والعرقيات التي تجذرت منذ قرون، فغذت التيارات الفكرية وشكلت معلم ثراء لا فرقة. هناك لم تكن اللغة وحدها من تُعرب، كان البرجر والبيتزا والروشيتة التي يكتبها الطبيب أيضا.
لم تكن هي حلب وحسب، كنا نقفزُ فوق قوس سوريا الملون، إدلب كانت محطتنا الأولى حيث استضافتنا عائلة كريمة في بيتها، ثمّ كبر الفضول، ذهبنا إلى قلعة حلب التي تشهقُ فوق تلتها بتاريخها الذي يعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد. أذهلني سرب حمام ملأ صفحة سماء دمشق القديمة عندما زرنا الجامع الأموي حيث المعمار الفاتن برخامه وفسيفسائه، ولم تكن الكنائس أقل حظا من الجمال فقد شهد بعضها ولادة وتطور العالم المسيحي.
لا أزال أذكر صديقتي التي أخذتنا في عطلة العيد إلى الرقة وبقينا بصحبة عائلتها لأيام، تمكنا آنذاك من زيارة قصر هارون الرشيد بالقرب من نهر الفرات. أتذكر الحافلة المجنونة التي استأجرناها للذهاب في إحدى الإجازات إلى اللاذقية المُطلة على البحر الأبيض المتوسط. كانت قد ارتفعت عاليا كأنّما ستُقبل وجه السماء، وعندما انحرفنا قليلا انكشفت الغابات والبساتين الهائلة كمن يلج لعالم خرافي لا يمكن تصديقه من فرط لا واقعيته، لن أنسى طرطوس أو المملكة الفينيقيّة جزيرة أرواد بممراتها وشوارعها المتعرجة.
لكن «من أنا لأقول لكم ما أقول»، على حد تعبير محمود درويش.. إنّه الحبّ العارم والحنين اللامحدود.. لقد دُفع الثمن الباهظ، فهل ستستلمُ سوريا المشعل أم أنّ الواقع المبهم المنقسم المتشرذم سيلوث ما تبقى من نهر آمالنا؟! هل ستنحل اللُحمة كما ينحل اللون المكثف في الماء الشفيف فيسيل ويفقد مادته التي يمكن أن تلون عالمنا القبيح!
من المؤكد سيلزم الكثير من الوقت للنجاة من كل قصص المعاناة الكارثية التي تفوقت على تصوراتنا البشرية وخيالاتنا المحدودة، فقد لا يُشفى البعض من جراحه إلى أبد الآبدين.. لكن التعقل في هذه التاريخية والاستفادة من جراحنا السابقة، وولوجنا إلى الدولة المدنية التي تقبل تنوع الأطياف بكل كثافتها، أهم بكثير من افتتاح مسرح جديد للفرجة على الضحية التي تُصفي جلادها انتقاما إلى أنّ ينهارا معا. لقد بات ذلك مألوفا ومكشوفا. تلك السردية التي تبدو فوضوية، لكنها مُنظمة بكل تأكيد من قِبل عين مُنحرفة.
من أنا لأقول لكم ما أقول؟ إنّها الخشية على بذرة الأمل التي نمت فينا، فالمخاطر تُحدق بها من كل صوب، قد تبدو على هيئة حشرة سامة أو ريح صرصر أو تربة فاسدة تُسرع وأدها. إنّها الخشية من انزلاق جديد لبرك موحلة، أو المضي بمشروع مُحدب أو مقعر، أو مجهول الطبيعة. خشية أن نتحول لذئاب كتلك التي وصفها أبو فراس الحمداني: بمن يثقُ الإنسانُ فيما ينوبـهُ، ومن أين للحرّ الكريم صحــابُ، وقد صار هذا الناسُ إلا أقلهم، ذئابا علـى أجسادهن ثيــابُ.
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى
0 تعليق