بعد أكثر من ثلاثة وخمسين عاما من الدكتاتورية، وقرابة أربعة عشر عاما من الصراع المنهك، سقط حكم الأسد في أقل من أسبوعين، ولقد أحدث الانهيار المباغت للنظام ـ الذي قتل وعذَّب وقمع من السوريين من لا حصر لهم ولا عد ـ إحساسا لافتا بالوحدة والنشوة تجاوزت الانقسامات القديمة في البلد.
ثمة أيضا شعور واضح بتزايد الخوف في شمال شرقي سوريا التي سيطر على أجزاء شاسعة منها ذات يوم ما عرف بتنظيم «داعش». فبرغم أن الجماعة فقدت تقريبا كل ما كانت تطلق عليه ذات يوم الخلافة، فإن تهديدها لم يتبدد، فعلى العكس من ذلك، قامت «داعش» بقرابة سبعمائة هجمة في سوريا منذ يناير وفقا لحساباتي، بما يضعها على طريق زيادة معدل هجمات السنة الماضية إلى ثلاثة أمثاله، كما ازدادت كفاءة هجمات داعش ودمويتها زيادة كبيرة خلال العام الحالي فضلا عن انتشارها جغرافيًّا.
وبالإضافة إلى حملة هجمات داعش المستمرة منذ شهور على صناعة النفط السورية، نرى أن شبكتها الابتزازية سيئة السمعة قد رجعت هي الأخرى، بما يوفر لها تجدد التمويل ويشير إلى مستوى من العمل المخابراتي المحلي الذي يبعث القلق.
لقد قضت الولايات المتحدة قرابة عقد في مكافحة الدولة الإسلامية في سوريا والعراق المجاور، بتمركز تسعمائة من القوات الأمريكية في سوريا وانصباب تركيزها على هذه المهمة. وفي هذه اللحظة الحرجة من تاريخ سوريا، لا بد من خطوات عاجلة لضمان ألا يضيع التقدم هدرا.
وليست مكافحة «داعش» بالعمل المباشر، وهي تقتضي مجموعة معقدة من الاستجابات المترابطة، ولا تقتصر على العمل العسكري وحده. فداعش في نهاية المطاف كانت ولا تزال من أعراض الفوضى التي تسببت فيها الحرب الأهلية السورية، لا سببا لها. وهي تعتمد على انعدام الاستقرار والمعاناة الإنسانية والمظالم المحلية وقودا لسرديتها ودافعا للتجنيد وتبريرا لأفعالها. ولمنع داعش من ملء الفراغات الناجمة عن سقوط الرئيس بشار الأسد، لا بد أن تستعمل الولايات المتحدة وحلفاؤها كل أداة متاحة لمحاربة عودتها وانبعاثها من جديد.
لقد تخلت قوات الأسد ـ التي كانت تحاول صد «داعش» الراغبة في التوسع ـ عن مواقعها في كامل وسط سوريا، ومقاتلو المعارضة السورية سعوا بالفعل إلى ملء بعض ذلك الفضاء، لكن عددهم ضئيل وقدرتهم على تنسيق حملة صحراوية معقدة ضد «داعش» محدودة في أفضل الأحوال، وقد جاءت استجابة الولايات المتحدة الأولى لهذا الفراغ المفاجئ الأسبوع الماضي، حينما ضربت طائرات أمريكية أكثر من خمسة وسبعين هدفا لداعش في جميع أنحاء وسط سوريا. وسوف يلزم أن يبقى الجيش الأمريكي يقظا في الأسابيع القادمة، ومستعدا لضرب داعش حيثما تسعى إلى حشد الموارد وإعادة التجمع وشن الهجمات.
لا تزال أغلب أجزاء سوريا خليطا من الميلشيات الفصائلية، ولكل منها أهدافه، وعلى مدى السنوات الثماني الماضية، شاركت الولايات المتحدة القوات الديمقراطية السورية ـ وهي تحالف كردي القيادة مهد الطريق لسقوط «داعش» في الرقة سنة 2017. وهذه القوات تواجه الآن لحظة وجودية محتملة. فالجيش الوطني السوري، وهو تجمع ميلشيات آخر منافس تسانده تركيا، استولى على بلدات استراتيجية من القوات الديمقراطية، ويتطلع الآن إلى مدينة كوباني الكردية ذات المكانة الرمزية. تم التوصل بوساطة أمريكية إلى هدنة بين هذه الفصائل المتحاربة يوم الثلاثاء، لكنها هدنة هشة.
اعتبارا من يوم الجمعة، تبدو علامات التعثر واضحة على سيطرة القوات الديمقراطية السورية في المناطق التابعة لها. فالمظاهرات ضد القوات الديمقراطية السورية في الرقة ودير الزور انحدرت إلى العنف والفوضى، مع ورود تقارير عن إطلاق هذه القوات النار على مدنيين. ولا بد أن تتدخل الولايات المتحدة بقوة لدى القوات الديمقراطية السورية لتثبيط هذا التصعيد. وسوف يقتضي هذا إشرافا عسكريا والمزيد من العمل الدبلوماسي. ولقد كان سفر وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن إلى أنقرة قبل أيام قليلة خطوة جيدة، ففي يد تركيا الكثير من مفاتيح الصراع.
تمثل الحالة الراهنة ـ وإن تكن منذرة ـ فرصا جديدة أيضا للولايات المتحدة في صراعها مع «داعش»، فالقبائل العربية في دير الزور تقاتل «داعش» منذ عقد، حيث إن لها جذورا داخل معارضة الأسد المسلحة في سوريا. وبفرض أن الولايات المتحدة لن ترغب في نشر قوات إضافية في سوريا، فقد يكون ثمة مجال للتعاون ولشراكات جديدة.
وسط كل هذا التغير وانعدام اليقين تكمن أزمة المعتقلين في شمال شرق سوريا، حيث يقبع عشرات الآلاف من سجناء داعش الذكور ومن يرافقهم من النساء والأطفال في أماكن الاحتجاز التابعة لقوات سوريا الديمقراطية. فلا بد من إعادة هؤلاء المعتقلين إلى مواطنهم الأصلية، ومحاكمتهم عندما يكون ذلك مناسبا على الجرائم التي ارتكبوها وهم مرتبطون بتنظيم «داعش». ولكن أطفال تلك المخيمات، وهم كثر، يستحقون فرصة لحياة جديدة. تنتمي أغلبية كبيرة من آلاف السوريين المحتجزين إلى مناطق كانت حتى وقت سابق من هذا الشهر خاضعة لسيطرة نظام الأسد. والآن، أصبحت حرية التنقل في سوريا ممكنة مرة أخرى فما من نظام ليعتقلهم أو يخفيهم أو ينتهكهم عند عودتهم.
وقد يتيح سقوط النظام مسارات جديدة لإعادة الأجانب المحتجزين في هذه المخيمات أيضا. لقد قام الرئيس الأسد بتطبيع العلاقات مع العديد من البلاد في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ـ وهي البلاد التي ينتمي إليها جزء كبير من المعتقلين في سجون قوات سوريا الديمقراطية ومخيماتها. وتنظيم العودة من كيان لا يمثل دولة ولا يعترف به الأسد إلى هذه الدول كان أمرا مستحيلا خلال بقائه في السلطة، أما وقد أزيلت هذه العقبة، فيمكن زيادة جهود وزارة الخارجية الأمريكية الجديرة بالثناء طوال سنوات لدفع أجندة الإعادة إلى الوطن.
في نهاية المطاف، ما من حل سريع لمشكلة داعش. ولكن إذا لم يتم اتخاذ بعض هذه الخطوات على الأقل، فقد يتفكك حلفاء أمريكا في سوريا في النهاية بسبب الانقسام الداخلي والهجمات الخارجية - بما يرغم الجيش الأمريكي على الانسحاب السريع. ومع عودة داعش فعلا إلى الظهور واستعدادها لتلقي دفعة كبيرة، سيكون رحيل الولايات المتحدة أمرا كارثيا.
تأتي هذه اللحظة الخطيرة على مستقبل سوريا في وقت يمكن أن يشهد تغير السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة في لحظة. فقد صرح الرئيس المنتخب دونالد ترامب بالفعل بأن الولايات المتحدة يجب ألا تكون لها «أي علاقة» بمستقبل سوريا، ولكن من شأن عدم القيام بأي شيء أن يعطي تنظيم «داعش» فرصة للظهور مرة أخرى.
تشارلز ليستر كبير زملاء ومدير برامج سوريا ومكافحة الإرهاب في معهد الشرق الأوسط، ومؤسس مجلة (سوريا ويكلي) ومؤلف ثلاثة كتب عن سوريا منها «الجهاد السوري».
خدمة نيويورك تايمز
0 تعليق