ضمن حدث مفاجئ، شهدت سوريا انهياراً للنظام بعد سنوات من الصراعات الدموية التي شهدتها البلاد. فعلى امتداد أكثر من عشر سنوات تصاعدت الانتهاكات والمجازر المرتكبة في حق المدنيين السوريين، ما خلّف عدداً كبيراً من الضحايا، في صفوف الأطفال والنساء، ودفع عدداً كبيراً من الساكنة إلى مغادرة البلاد كرهاً بحثاً عن فضاءات آمنة.
ساهمت الكثير من المعطيات في تعقيد الملف السوري الذي شكل أحد التجليات القاتمة لتحولات الحراك الذي شهدته المنطقة منذ عام 2011، وعلى رأسها وجود معارضة مشتتة بتصورات ومرجعيات متضاربة ومتناقضة من جهة أولى، وتعرض البلاد إلى تدخلات خارجية من قوى إقليمية مجاورة من جهة ثانية، ووجود نظام شمولي مستعد للتضحية بمصالح الشعب وباستقرار البلاد من أجل البقاء في السلطة من جهة ثالثة.
وأمام هذه الظروف، عمت أجواء من الإحباط والتشاؤم، ولم تؤد التضحيات الجسام التي بذلها الشعب السوري إلى كسب رهانات بناء دولة ديمقراطية حاضنة للجميع، ما عمّق المعاناة الإنسانية الخطرة التي يجسدها التقتيل المستمر والترحيل المرتكب من جهة النظام الحاكم، ومن جانب الجماعات المتطرّفة المسلحة أيضاً، في حق كثير من المواطنين السوريين.
وبين نظام مُصرّ على البقاء في السلطة يجرّ خلفه آثاماً أفقدته المشروعية، ومعارضة متشظّية لم يخل أداؤها أيضاً من أخطاء، ترفض أي خيار يضعه نظام الأسد جزءاً من الحلّ لوقف الصراع، استثمرت العديد من القوى المتطرفة حالة الانفلات الأمني في عدد من المناطق السورية لتفرض هيمنتها وتهدد المنطقة برمتها، بخاصة مع ظهور تنظيم ما يسمى ب«دولة الخلافة الإسلامية» وتحالفه مع بعض القبائل المحلية، وتساهل النظام السوري في التعاطي معها بقدر من الصرامة.
لم تنجح مختلف الوساطات والمساعي الحميدة الإقليمية والدولية في وقف العنف داخل البلاد، سواء ما تعلق منها بالمبادرات الرامية إلى التقريب بين وجهات النظر المتباينة بين الأطراف المتصارعة، أو في ما يتعلق بفرض احترام الهدنة التي كثيراً ما كانت تتعرّض للخرق بسبب غياب آليات للمراقبة والمتابعة.. وقد كان لاختلاف المواقف الإقليمية من النزاع، بخاصة بين إيران وتركيا وعدد من البلدان العربية، وبين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا أثر كبير في تعميق الخلافات بين الفرقاء السوريين.
كل هذه العوامل سيكون لها أثر كبير في إرباك دور مجلس الأمن باعتباره المسؤول عن حفظ السلم والأمن الدوليين، وشلّ حركته في ما يتعلق بإعمال تنفيذ الفصل السابع من الميثاق، لإرغام النظام السوري على وقف القتال، ووقف زحف التدخلات الإقليمية وانتشار الجماعات والتنظيمات المسلّحة داخل التراب السوري، الأمر الذي عقّد رهان التحوّل في هذا البلد، وحوّل المعركة الدولية في مرحلة ما من مواجهة النظام السوري إلى محاولة صدّ تنظيم «داعش».
إن النهاية المدوّية لنظام الأسد هو نتاج طبيعي لحراك داخلي ولتضحيات جسام بذلها الشعب السوري، وفي نفس الوقت هو انعكاس لتطورات إقليمية استراتيجية ساهمت في عزل هذا النظام الذي يجر خلفه الكثير من الانتهاكات. وفي هذا السياق لا تخفى تأثيرات انشغالات روسيا بحربها مع أوكرانيا، كما أن الضغوط التي تعرضت لها كل إيران وحزب الله أخيراً في سياق تداعيات العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان، أسهمت بشكل كبير في تراجع الدعم للنظام السوري.
إن رحيل الأسد لا يعني بأي شكل من الأشكال أن طريق التنمية والديمقراطية بات متاحاً وسهلاً أمام مختلف الفرقاء السوريين، ذلك أن هناك الكثير من الإشكالات الأمنية والسياسية والاجتماعية التي تفرض نفسها بقوة، وتتطلب تدبيراً محكماً للمرحلة الانتقالية بصورة عقلانية وبأسلوب مسؤول وفي مستوى التضحيات التي بذلها الشعب السوري وتطلعاته نحو بناء دولة ديمقراطية.
فالمعارضة السورية يطبعها الاختلاف وتباين المرجعيات، وهو الأمر الذي يفرض إرساء توافقات تستحضر مصالح سوريا وتنبذ الحسابات الضيقة والطائفية والخارجية. كما أن حجم المآسي المتراكمة يقتضي توفير أجواء ملائمة لعودة المبعدين والمهجرين إلى ديارهم، وإعادة إدماج ضحايا السجون، وفرض الأمن الكفيل بحماية الحقوق والحريات، وتقوية دور الدولة في مواجهة الطائفية والأجندات الضيقة..
لا شك أن المرحلة المقبلة ستشهد تبعات إقليمية مختلفة في سياق سعي بعض القوى إلى تشكيل نظام إقليمي بتوازنات جديدة، وهو ما تعكسه الانتهاكات المستمرة لسيادة سوريا من قبل إسرائيل في خضم هذه الأجواء التي تمر بها البلاد. كما لا تخفى الإشكالات الأمنية والسياسية والثقافية التي ستطرحها عودة المقاتلين في سوريا إلى عدد من البلدان في منطقتي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
تمرّ سوريا اليوم بمرحلة مفصلية تفرض الاستفادة من تجارب الحراك الذي شهدته المنطقة على امتداد أكثر من عشر سنوات مضت، والذي اتخذ مساراً دموياً في عدد من الأقطار بسبب هيمنة المصالح الضيقة والفئوية، ودخول أطراف خارجية على الخط.. بخاصة على مستوى اعتماد آلية العدالة الانتقالية الكفيلة بالحسم مع ترسبات ماض أليم، يسمح ببناء المؤسسات وتعزيز الممارسة الديمقراطية، في إطار مرتكزات قوامها العدالة والأمن وعدم الإفلات من العقاب.
0 تعليق