في أواسط سبعينات القرن العشرين زار الكاتب الفرنسي جان جُنيه لبنان وسوريا والأردن، وفي البلدان الثلاثة كانت زيارته محدودة في معرفة حياة الناس في المخيمات، وعاش أقل من عام يأكل ويشرب وينام على الأرض مثله مثل الكثير من الناس.
المسرحي السوري سعد الله ونّوس أجرى، حواراً مطوّلاً مع جُنيه، ونشر الحوار في مجلة «الكرمل» (العدد الخامس شتاء عام 1982)، ويروي جُنيه لسعد الله ونّوس هذه الحكاية حول ذكرياته حين زار عائلة في قرى الجولان الحدودية.
يقول جُنيه: «دخلنا عند عائلة ريفية، استقبلنا الرجل وزوجته بحفاوة وبساطة نبيلتين. كنا نتناول الشاي حين لاحظت أن صوت المرأة يعلو غاضباً، وأن الزوج يبدو متضايقاً ومرتبكاً. سألت مرافقي ماذا يجري، فقال لي: إن المرأة تعنّف زوجها لأنه لم ينخرط بعد في صفوف المقاومة. تقول له: انظر.. هو ذاك رجل أجنبي يأتي مجتازاً آلاف الكيلو مترات ليساند الثورة، في حين لا تزال أنت الفلسطيني تتردد في حمل السلاح».
في مدينة جرش الأردنية، دعت مجموعة من النساء جُنيه لزيارة بيوتهن، وكتب هو حول هذه الزيارة، يقول: «كن هادئات، تكسو وجوههنّ رصانة شجاعة. سرت معهنّ حتى وصلنا أكواماً من الأنقاض والخرائب. قالت واحدة بجديّة مؤثرة: «تفضّل.. ادخل وتصرّف على راحتك»»، ثم اعتلت كومة أنقاض، وأضافت مشيرة بيدها: «هنا كنا نستقبل الضيوف.. وهنا كنا نفرش وننام». لا أدري.. اقشعرّ بدني، وهنّ يتحدثن بهدوء، ومن دون أي ميلودرامية، عن بيوتهن التي حوّلتها قذائف المدفعية إلى أنقاض. أحسست أنهنّ ينبثقن من حكمة شعبية موغلة في القدم، أو من تاريخ خطِر وفاجع».
وفي مكان آخر يكتب جُنيه، عن سهرة جمعته بإحدى العائلات، ويقول: «أثناء السهرة قادنا النقاش إلى موضوع حرية المرأة. أينبغي أن تُعطى حرية كاملة، أم أن شروطها البيولوجية والتاريخية لا تسمح بحرية جزئية؟ كان المسؤول يدافع بحماسة عن الرأي الثاني. وكانت زوجته تجلس معنا، إلا أنها لم تفه بكلمة، ولم يسألها أحد رأيها. تدخلت في الحديث، وطلبت من داوود أن يترجم كلامي حرفياً. قلت: أتساءل: أليس غريباً وشاذاً أن نناقش مصير المرأة، ونقرّر نوع وكمية الحرية التي ينبغي أن تعطى لها، ومعنا امرأة لم يحاول أحد أن يسألها رأيها في الموضوع؟»..
كان ذلك قبل نحو خمسين عاماً في فضاء ثقافي عربي عاينه جُنيه بعينيه وعقله ورأسه، فما الذي تغيّر، إذا كان هناك ما تغيّر؟
0 تعليق