المعرفي والإيديولوجي في تمثّلات العرب والغرب - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

مَن يُطالع سيرة العلاقة بين العرب والغرب، بين وعْييهما وثقافتيْهما ويفحص عن تمثلات الواحد منهما للآخَر، سيَلْحظ أنّهما سَلَكا معاً مسلكَيْن في النّظر إلى كلٍّ منهما يَبْدوان من نصابيْن من الوعي مختلفيْن. وهما، للحقّ، مختلفان ولا يُفضيان إلى النّتائج عينِها حين اعتمادِهما: سواء على صعيد ما ينجُم منهما من معرفةِ الواحد من العالميْن بالثّاني، أو على صعيد ما يمكن أن يترتّب عن تلك المعرفة - في الحاليْن - من متَرَتَّبات (مواقف، سياسات، أفعال...).
ولقد تَقابَل المَسْلكان ذيناك وتَضَادّا لأنّ المبدأ المؤسِّس لكلّ منهما (الغرض) مختلِف: المعرفة، في حالٍ، والمصلحة، في حالٍ أخرى، أو المعرفة المنصرفة إلى الفهم والمعرفة المُجَنَّدة في مشروعٍ سياسيّ. وما أغنانا عن القول إنّ كلّ غرضٍ مهدوفٍ إليه يستدعي، حكماً، أدواتٍ وطرائقَ في المعرفة ومفرداتٍ تُطابِقه ويفرض على النّاظر في معطاه، بالتّالي، جهداً منهجيّاً في تمييز جِنس كلٍّ منهما.
لديْنا من ثمرات المَسْلك الأوّل تراثٌ من الكتب والأعمال الرّصينة التي أنجزها الغربُ عن العرب والعرب عن الغرب منذ قريبٍ من قرنين، والتي كان لها الأثرُ الإيجابي المتبادَل، بحيث ما اكتفتْ بأن قدّمت معرفةَ الواحد منهما بالثّاني، تاريخاً وثقافةً ومنظومَة قيمٍ، فحسب، بل أَنجبت صلاتِ اتّصالٍ وحوارٍ بينهما.
كان الاستشراق قد بدأ، مبكّراً، برنامج معرفةِ عالمِ الشّرق (العربيّ والإسلاميّ في حالتنا) فأرسى تقاليدَ في الدّرس سرعان ما استلهمتْها الثّقافة العربيّة ووطّنتها في نسيجها، ثمّ ما لبث أن وسّع دائرة دراساته فأضاف إلى برنامج دراسات الماضي دراسات الحاضر.
ومع أنّ الاستشراق لم يكن واحداً ومتجانساً في نظرته إلى العرب وتراثهم وحاضرهم، ومع أنّه انقسم على نفسه بين استشراق علميّ نزيه وآخَر حاقد ومعادٍ وتحريضيّ، إلا أنّه أَطْلَع النّخب الثّقافيّة العربيّة على الكثير من كنوز تراثها وحضارتها، التي انكبّ على دراستها، ونبّهها إلى المناهج الحديثة في المعرفة والبحث، فكان حافزاً للثّقافة العربيّة لا يقلّ في الأهميّة عن معارف الغرب الأخرى الحديثة التي اطّلع عليها المثقّفون العرب في المظانّ، أو من طريق التّرجمة والملخّصات. ولقد أشرتُ إلى الاستشراق، تخصيصاً، لأنّه أتى يُجسّد، في تعبيراته الموضوعيّة النّزيهة، أرقى نوعيّة من معرفة الغرب للعرب وحضارتهم وتراثهم قبل أن يَغشى تلك المعرفة انحطاطٌ وابتذال.
في مقابل نظرةٍ غربيّة متشبّعة بالرّغبة في معرفة عالَم العرب وتراثِهم وثقافتهم، أفصحتِ الثّقافةُ العربيّة، في لحظةٍ متقدّمة من تاريخها الحديث (اللّحظة الإصلاحيّة والنّهضويّة)، عن نظرةٍ شديدةِ الوفاء للموضوعيّة ولإرادة المعرفة في رؤيتها إلى الغرب: مدنيّةً وثقافةً ومكتسبات. ما كان للنّخب الفكريّة العربيّة أن تنسى، لحظةً، صدمةَ الغزو الكولونياليّ وما أتى في ركابه من فظاعات استعماريّة ولا أن تبرِّرها تحت أيّ ظرف، لكنّها ما توقّفت عندها ولا منعتْها حادثةُ ذلك الغزو من رؤية جوانبَ أخرى في مدنيّة أوروبا والغرب، والانطلاق من نموذجها ومن دروسها نحو محاولاتٍ للاستلهام والاغتنام.
لقد كان من المفهوم، تماماً، ألا يُدْرِك مكامن قوّة الغرب (العلم، العقلانيّة، الدّيمقراطيّة، النّظام، القانون، الإنتاج...) إلا مَن لفَحَت وعيَهُ رياحُ الحداثة، فانتبه (وعْيُه) إلى عظيم مكتسباتها. هكذا بات يسع هذه الثّقافة العربيّة أن تتبيّن الفارق بين الغثّ والسّمين في ذلك الغرب، وألا تتفاعل إلا مع ما هو مشرِقٌ وإيجابيّ في مكتسباته ناظرةً إليه من حيث هو عطاءٌ ذو طابعٍ إنسانيّ يتخطّى مصدره القوميّ والجغرافيّ. وهكذا كان يسعها أن تُخْرِجَ الوعي العربيّ من مستنقع النّكوص والرّفض السّلبيّ للغرب وحضارته لتكتشف في مدنيّته ما ينبغي أن يؤخذ به ويُقْتَدى، وما يُبْنى عليه، سعياً وراء اجتراح مكانٍ للعرب في العالم والمستقبل.
في مقابل هذه النّظرة المتبادَلَة، المتوسِّلةِ أدوات المعرفة والمتجرّدةِ من أيّ اغتراضٍ غيرِ ثقافيّ، تنتصب أخرى لا تبغي من النّظر إلى الآخَر سوى شيطنته أو تشويه صورته والتّحريض عليه. أكثر الوعييْن الغربيّ والعربيّ منخرط، منذ عقود، في عمليّة تصنيع مثل هذه النّظرة وتوزيعِها على أوسع النّطاقات. لا مكان لإرادة المعرفة ولا بالتّالي، للنّزر اليسير من الرّغبة في الفهم في مثل هذه النّظرة الإيديولوجيّة العدائيّة لدى الفريقين.
قد يصحّ أن يقال إنّه لا عدالة، هنا، في المساواة بين الجلّاد والضّحيّة، وهو صحيحٌ لا مِرْية فيه، ولكنّنا لسنا في معرض التّمييز بين الأنصبة والمسؤوليّات في هذا الباب، بمقدار ما يعْنينا أن نتميّز هذا الضّرب السّيئ من «المعرفة» المتبادَلَة عن سابقه. إنّ الأصاليّين العرب، المنكفئين إلى الماضي المتشرنقين عليه والمعادين للغرب، هم نظراءُ أولئك الدّارسين والصّحفيّين والإعلاميّين في الغرب المنصرفين، بهمّة المأجور للمؤسّسة، إلى إنتاج أسوأ الصّور و«الكليشيهات» عن العرب والإسلام: كلاهما يؤسِّس لكلّ أنواع الصّدام بين العالميْن.
من البيّن أنّ النّظرة الشِّقاقيّة أو النّزاعيّة (الثّانية) هي التي تفرض سيطرتها، اليوم، في ميدان علاقات العرب/الغرب. على أنّ التّقاطب هذا بين تينِك النّظرتين لا يقوم بين عالَميْن متقابليْن حصْراً، بل داخل العالم الواحِد على نحوٍ يوزِّعه إلى فريقين متضادّين، إنْ لم نقُل إلى فُسطاطين لا برزخ بينهما يصِل.

[email protected]

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق