في فلسفة العقد الاجتماعيّ الحديثة فكرة تأسيسيّة مفادها أنّ ما دُعِيَ باسم الحقّ الطّبيعيّ، في نصوص الفلاسفة المحدَثين، كان هو عينه الأُسُّ الأساس الذي بُنِيَت عليه فكرةُ الدّولة بما هي حصيلة تعاقُد النّاس عليها. لا نعني بهذا أنّ الحقّ الطّبيعي - الذي يُخْشى عليه من التّبدُّد والعدوان في أزمنة ما قبل الدّولة - هو ما ارتبط صوْنُه بالخروج من حالة الطّبيعة والذّهاب إلى تأسيس المجتمع السّياسيّ فقط، ولا نعني بذلك أنّه هو ما أسّس لمشروعيّة الحقّ المدنيّ الذي يجد نفسَه وضمانتَه فيه فقط، وإنّما نعني ما هو أكثر من ذلك: امتناع قيام الدّولة لولا وجود ذلك الحقّ الطّبيعيّ بوصفه الدّيناميّة التي صنعت الدّولة. إنّ الدّولة تَدين في وجودها لوجود ذلك الحقّ ولِمَا أتاحه من فاعليّةٍ خلاّقة أبصرت معها النّور. نعثر على هذه الفكرة حتّى عند توماس هوبس علماً أنّ تَجلّيها الأعلى يتبدّى في نصوص جون لوك وسپينوزا وجان جاك روسو.
الدّولة، في عُرْف فلاسفة السّياسة المحدَثين، مجتمعٌ موازٍ للطّبيعة اصطنعه النّاس لأنفسهم اصطناعاً من أجل تنظيم اجتماعهم وحماية السِّلم بينهم. والمجتمعُ (السّياسيّ) هذا لا يختلف عمّا قبله (المجتمع الطّبيعيّ) سوى في أنّه يُنشئ داخله سلطةً يَكِل إليها أمْرَ تنظيمه والحفاظِ على أمنه وصوْنِ حقوقه. ولكنّها سلطة (دولة) تحتاج - من أجل قيامها- إلى اتّفاقٍ بين أولئك الذين يرغبون في اصطناعها وانتحالِها لهم لوذاً بحقوقهم من التّنازع الإفنائيّ عليها. من هنا تبلورت فكرة العَقد الاجتماعيّ في فلسفة أولئك الفلاسفة الذين سيحملون اسمه (فلاسفة العَقد الاجتماعيّ). هكذا ذهبوا إلى القول إنّ تأسيس المجتمع المدنيّ (أي المجتمع السّياسيّ أو الدّولة) يقتضي تراضياً بين النّاس أو اتّفاقاً يكون بمثابة عَقد تُلْزِم بنودُهُ المتعاقدين بأحكامه. هذا يعني، ابتداءً، أنّ الدّولة - في منظور هؤلاء الفلاسفة - اصطناعيّة مثلها مثل أيّ مؤسّسة أخرى (شركة، جمعيّة...) يقيمها النّاس لحماية مصالحهم وتعظيمها. لكنّه يعني، أيضاً، أنّ اصطناع هذه المؤسّسة (الدّولة) يأتي مسبوقاً بعاملٍ دافعٍ هو الإرادة، إذْ لو لم يُرِد هؤلاء قيام الدّولة لَمَا قامت، ولو لم يكن هؤلاء يمتلكون إرادتهم لَمَا أمكنهم إقامة الدّولة. إنّ الإرادة هنا عاملٌ خلاّق وحاسم في هذه السّيرورة من الانتقال المعقّد والشّائك من المجتمع الطّبيعيّ إلى المجتمع السّياسيّ، حتّى كأنّ الدّولة تبدو ثمرةً لتلك الإرادة.
على أنّه ما كان لإرادة إقامة الدّولة أن تتحقّق لدى النّاس لو لم تكن مسبوقة بالحريّة، بمعنى أنّه ما كان لهم أن يتّخذوا - بمحض إرادتهم - قراراً بالخروج من حالة الطّبيعة وتأسيس الدّولة لو لم يكونوا أحراراً، إذِ الكائنُ الحرّ وحده يملك أن يفعل فعلاً مقترناً بالإرادة، فيما لا يكون مَن يفتقر إلى الحريّة مالكاً لإرادته. وهنا نحن أمام المعنى الذي أشرنا إليه، قبْلاً، المتعلّق بفاعليّة الحقّ الطّبيعيّ في إنتاج الدّولة. بيان ذلك أنّ أَرْأَس الحقوق الطّبيعيّة عند فلاسفة السّياسة، الذين يسلّمون بمركزيّته في حالة الطّبيعة، هو الحقّ في الحريّة. هكذا نُلفي فلسفةَ العقد الاجتماعيّ تصدُر عن مقدّمة نظريّة تقول إنّ الحقّ الطّبيعيّ هو الميكانيزم الدّافع إلى تأسيس الدّولة. يقترن بهذا قولٌ رديف، ومتولّد من الأوّل في آن، مفادُه أنّ الدّولة منتوجٌ إنسانيّ تحقّق بمقتضى الحريّة (وبالإرادة)، أي بمقتضى ذلك الحقّ الذي منَحَتْه الطّبيعة إلى مَن ينتسبون إلى مملكتها: أعني الحريّة. وعليه، تجد ظاهرةُ الدّولة - في هذا المنظور الفلسفيّ - مصدريّتها في الحقوق الطّبيعيّة وعلى نحو خاصّ في أسمى تلك الحقوق وأَوْلاها: الحريّة.
على أنّ أثر الحقّ الطّبيعيّ في تكوين الدّولة وتسويغ مشروعيّتها ليس مقتصراً على إيجاده إمكانَ اتّفاقٍ يُبْرَم بين النّاس، في المجتمع الطّبيعيّ، للخروج من حالة الفوضى إلى تأسيس حالة النّظام والسّلطة، بل هو أثرٌ بادٍ في المنطِق المؤسِّس لفكرة الحاجة إلى إقامة الدّولة عند مَن تَواضعوا، بالاتّفاق المبرَم، على إقامتها من أعضاء ذلك المجتمع الطّبيعيّ. بعبارةٍ أخرى، إنّ الغاية من إقامة الدّولة، عند فلاسفة العقد الاجتماعيّ، هي رغبة أعضاء الجماعة الطّبيعيّة في تأسيسِ نظامٍ اجتماعيّ جديد ينهض بما لا يستطيع النّظام الطّبيعيّ أن ينهض به: حماية الحقوق الطّبيعيّة، التي يتهدّدها الانتهاكُ والعدوان في «مجتمع» ما قبل الدّولة.
لا يختلف الفلاسفة المحدَثون في تقدير مكانة الحقّ الطّبيعيّ في تأسيس الدّولة و، بالتّالي، في تكوين الحقّ المدنيّ ووضع القانون والتّشريعات الخاصّة بالحقوق، إذْ يتّصل ذلك التّقدير بمفهومهم للعقد الاجتماعيّ بوصفه عقداً مبرما ً. إنّ الحقّ في المُلكيّة، مثلاً، حقٌّ طبيعيّ عند جون لوك (فيما يدافع هوبس قبله عن الملكيّة العامّة) والدّولةُ، عنده، هي ذلك الجهاز الموكول إليه أن يحميَ هذا الحقّ ويضمنه بالتّشريعات المناسبة. ومع أنّ القول بالحريّة بوصفها حقّاً طبيعيّاً هو ممّا وقع الإجماع عليه في الفلسفة الحديثة، إلاّ أنّ الإلحاح عليه تَفاوَت من فيلسوف لآخَر ومن حقبة لأخرى، فإذْ نعثر على وجوهٍ من التّظهير الشّديد له في فلسفات لوك وروسو وكَنْت، نَلْحظ شحوبه في فلسفة هوبس المشدودة إلى فكرة الأمن أكثر من الانشداد إلى فكرة الحريّة.
0 تعليق