د. ندى أحمد جابر*
أمام هذا الزمن الهابط وهذا الكم الهائل من الشر الذي نشاهده على الشاشات والذي يأتي إلينا في قالبٍ مُصطنع من بطولات وهمية لا يُصدقها عقل.. تعود بي الذاكرة إلى الكاتبة الألمانية ذات الأصول اليهودية (حنّة ارندت) التي أبدعت في تحليل مفهوم الشر في كتابها الشهير (إيخمان في القدس) والذي نشر في الستينات من القرن الماضي، حيث لاقى كتابها الكثير من الاهتمام في المشهد الثقافي، واختلفت فيه الآراء بين مُؤيد ومُعارض.
كانت الأولى التي تطرقت إلى وصف الشر بأنه لا يستند إلى الكراهية الشديدة أو الشيطانية العميقة أو على الأقل إلى بطولة الإيمان بالعقيدة القتالية، بل هو مجرد تفاهة في عقلية الجندي أو المقاتل الذي يُطلق النار على طفل أو يُشارك في إبادة كالتي نجت منها هي نفسها في ألمانيا واضطرت على أثرها أن تُهاجر إلى باريس ومن ثم الولايات المتحدة.
(حنّة آرندت) كانت في القدس تتابع محاكمة (إيخمان) الذي شارك في إبادة الشعب اليهودي، وعلى الرغم من أنها تمنت له أن يُعاقب أشد العقاب، فإنها وجدت فيه مجرد تافه يُنفذ الأوامر من دون إيمان حقيقي بأهداف العقيدة القتالية التي يُحارب لأجلها، بل كل ما يهمه على الرغم من شراسته في ارتكاب الجرائم هو تنفيذ الأوامر لا أكثر.
وجدت أنه متأثر بفلسفة (إيمانويل كانط) في مصطلح «الواجب الأخلاقي» أي طاعة القانون احتراماً له، وفعل الشر وكأنه الخير طالما أنه يُنفذ الأوامر. الأمر الثاني الذي رأته في (إيخمان) هو ضحالته الفكرية وانعدام مقدرته على النظر إلى أي شيء من منظور الآخر، لكنها تابعت أن تفاهته هذه لا تعفيه من المسؤولية.. وتابعت في تفسير الضحالة الفكرية بأنها لا تعني الغباء المجرد، بل انعدام قدرة المقاتل المُدرب أو المَشحون بالتعصب الأعمى على التميّيز بين الخير والشر.
تفسر هذه النظرية إلى حد كبير الجرائم التي وقعت في المجتمعات المتعددة الانتماءات دينياً وطائفياً وفكرياً والتي مرت بفترات طويلة من التعايش.. تلتها فترات من الاضطراب الأمني المفاجئ وغياب العقل كما حدث في أزمنة كثيرة وكما يحدث اليوم. يُقدم الشر نفسه في قالب مُصطنع من الانتصارات الوهمية التي تتخفى وراء عقلية فكرية ليست في حقيقتها سوى مجرد تفاهة مقاتل خائف على منصب أو خائف من غضب قائد أو مُضلل فكرياً، وكأن كل ما تقترفه يداه من جرائم لا تعنيه ولا تشبهه، بل هو يرى نفسه بطلاً ينفذ ما يُطلب منه.
ربما هذا يُفسر ما يحدث لبعض الجنود بعد الحروب من انهيارات نفسية تصل حد الانتحار. ولبعض الفصائل الضالة من تغيير متتالٍ في ولاءاتها من جماعة إلى أخرى.. في ساحة شاسعة من «الشر التافه»..
هذا الجو الغامض من انتشار الجرائم يؤكد أهمية نظرية (حنّة) التي وافتها المنية عام 1975 ولم تُترجم كتبها إلى العبرية ولم يُعترف بها إلا في عام 2000. بعد أن تعلم المُعارضون أن يتقبلوا النظر إلى كتابها بموضوعية ودارسته بعيداً عن تخصيص توصيفها لتفاهة الشر بأنه دفاعاً عن النازية، بل هو مجرد توصيف دقيق لتلك الفئة (من أي جهة كانت) تتلقى الأوامر أو تتلقى تدريباً يعتمد على غسل الدماغ البشري ليتصرف بآلية لا يمكن أن تكون بطولة بل مجرد تفاهة سطحية واهية هم نوع من المجرمين، يرتكبون الجرائم في ظروف تجعل من المستحيل بالنسبة إليهم معرفة أنهم تافهون.. وإن كانوا يستحقون العقاب فهو العقاب على تفاهة تفكيرهم وسطحية فهمهم التي جعلتهم أدوات في أيدي مجرمين آخرين لا يقلون عنهم تفاهة في انغماسهم في بئر الطمع والتكبر وقدرتهم الفائقة على توظيف كل ما لديهم من إمكانات لتحقيق مصالحهم الخاصة والتي لا يَعرف المُقاتل عنها شيئاً ولا يجب أن يَعرف.
إذن المطلوب هو تنفيذ الأوامر فقط ليحظى بالتصفيق أو الترقية ولأجلها يَغيب في المقاتل الضمير البشري ويتحول إلى حيوان مفترس، يتخيل البطولة في تنفيذ الأوامر. ما يلفت في نظرية (أرندت) عن «تفاهة الشر» هو نظرتها الى (إيخمان) كإنسان مُضلل بلا ضمير.. نعم يستحق العقاب، لكنه ضحية مجتمع عَلّمه بأن عليه ألاّ يشعر بالذنب حيال أفعاله. في حين يُفترض في قانون الدول المستنيرة بأن يطلب الضمير من الجميع كلمة.. «لا تقتل». بينما كان قانون دولة (هتلر) هو أن يطلب الضمير من الجميع كلمة.. «أقتل» وبالفعل كان أحد ادعاءات (ايخمان) في المحكمة بحسب الكاتبة (أنه لم تكن هناك «أصوات» من الخارج لتوقظ ضميره).. لكن كل ذلك لا يعفيه من العقاب هو في النهاية مجرم.. تافه.
إن غياب «الأصوات» التي تُوقظ الضمير الإنساني وتُوقف تيار الشر الهادر في عصرنا المُتقلب هو نتيجة حتمية لنظام التفاهة الذي تحدث عنه الكاتب (ألان دونو) في كتابه (نظام التفاهة) فهي سمة العصر، حيث غاب ضمير الإعلام العالمي أي «الصوت».. أو لنقل غُيب بنفس الأدوات التي غُيب فيها ضمير المُقاتل.. وكما قال (دونو): «إن التافهين قد حسموا المعركة فعند غياب الضمير والمبادئ والقيم.. يبدأ الزمن الهابط»
0 تعليق