د. خليل حسين *
لطالما بدت رئاسة الجمهورية في لبنان ذات طبيعة خلافية، سواء من جهة موقعها الدستوري في النظام السياسي اللبناني، أو من جهة العناصر التي تتداخل فيها لجهة صناعة الرئاسة والمؤثرات التي تلعب دوراً حاسماً في الانتخابات.
ففي لبنان تعتبر انتخابات الرئاسة أزمة في حد ذاتها منذ الاستقلال، مهما كثرت التنظيرات والتبريرات، ثمة جزم من الصعب تجاوزه، لجهة حجم التدخلات الهائلة في صناعة الرؤساء، وامتدادها إلى مستويات تتخطى ملفات الرئاسة لتلامس في كثير من الأحيان كينونة الدولة واستمرارها، فعلى مدى قرن ونيف من الزمن ظلت الرئاسة معلماً سلبياً ظاهراً في الحياة السياسية اللبنانية، وبخاصة بعد الاستقلال في عام 1943.
ثلاثة عشر رئيساً تعاقبوا على حكم لبنان، شهدت ولاياتهم جميعاً أحداثاً فارقة، منها أزمات حكم كبيرة أدت إلى احتراب ونزاعات داخلية، فيما بعضها تخللها تدخلات أجنبية عسكرية وأمنية، زادت على التعقيدات الداخلية تعقيدات إضافية، جعلت من الأزمات الداخلية مرتعـــاً وموقعاً لتدخـــلات إقليميــــة ودوليـــة امتدت تأثيراتها لقضايا إقليمية كثيرة.
يشهد لبنان حالياً حشداً هائلاً من الوساطات والاقتراحات بهدف تمرير الانتخاب الرئاسي وسط انقسام لبناني عمودي غير مسبوق في حجمه ومستواه، وفي ظروفه ووقائعه المتشابكة داخلياً وخارجياً، ووسط زلزال عسكري وسياسي وأمني عنيف ضرب الشرق الأوسط وتحمّل لبنان ضغوطه وارتداداته وبخاصة ملفاته ذات الصلة الإقليمية.
إن قراءة ظروف الرؤساء الذين تعاقبوا منذ عام 1943 تثبت عدم قدرة أي منهم على تسليم السلطة في ظروف طبيعية للخلف. ففي عام 1943 انتخب بشارة الخوري ومددت ولايته حيث انتخب الرئيس كميل شمعون بعد منتصف ولاية سلفه، وسط ما سمي الانقلاب الأبيض، فيما انتخب الرئيس فؤاد شهاب في ظروف حرب أهلية سريعة على خلفية دخول لبنان سياسة المحاور كحلف بغداد مثلاً، فيما انتخب الرئيس شارل حلو وسط بداية انطلاق العمل الفدائي الفلسطيني في عام 1964، والذي أنهى عهده باتفاق القاهرة عام 1969، الذي شرع العمل الفدائي انطلاقاً من لبنان، والذي كان سبباً رئيسياً لانقسام اللبنانيين واشتعال الحرب الأهلية في نهاية عهد الرئيس سليمان فرنجية في عام 1975، ثم ما لبث أن انتخب الرئيس إلياس سركيس قبل نهاية ولاية الرئيس سليمان فرنجية بستة أشهر، الذي كان ترجمة أولية للدخول السوري في الأزمة اللبنانية بغطاء ومشاركة عربية ما لبثت أن تركت الساحة لدمشق لاحقاً.
في الخامس من حزيران/ يونيو 1982 اجتاحت إسرائيل لبنان واحتلت العاصمة بيروت، وانتخب قائد القوات اللبنانية بشير الجميل رئيساً للجمهورية، واغتيل قبل تسلمه سلطاته الدستورية، ليخلفه أخوه أمين الجميل الذي شهد عهده نزاعات داخلية غير مسبوقة انتهت بفراغ رئاسي، حيث شهد لبنان حكماً برئيس حكومة عسكرية تولاها قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون وحكومة مدنية استمر فيها الرئيس سليم الحص، إلى حين التوصل لاتفاق الطائف، وانتخاب الرئيس ميشال معوض الذي اغتيل بعد وقت قصير من انتخابه، ليخلفه الرئيس إلياس الهراوي الذي مددت ولايته لثلاث سنوات، خلفه انتخاب قائد الجيش إميل لحود الذي شهد عهده اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري في 14 شباط/ فبراير عام 2005، حيث كان التمديد للرئيس لحود ثلاث سنوات سبباً في انقسام اللبنانيين، حيث شهد نهاية عهده فراغاً رئاسياً انتهى بانتخاب قائد الجيش آنذاك ميشال سليمان رئيساً عبر ما سمي آنذاك اتفاق الدوحة، الذي كرس أعرافاً دستورية في الحكم، وانتهى عهده بفراغ رئاسي، انتهى بانتخاب ميشال عون قائد الجيش الأسبق ورئيس الحكومة العسكرية بعد عودته من المنفى الباريسي، والذي انتهت ولايته بفراغ رئاسي رابع.
إذاً، ثلاثة عشر رئيساً للجمهورية وصلوا إلى سدة الرئاسة بظروف مختلفة، يجمعهم تدخلات خارجية دائمة لإيصال أي منهم، حتى أن الحالة الوحيدة التي يقال إنها لبنانية بحتة، أي انتخاب الرئيس سليمان فرنجية في 17 أغسطس/ آب 1970 بفارق صوت واحد أمّنه رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي آنذاك الزعيم كمال جنبلاط تخلله بعض الأسئلة وعلامات الاستفهام حول عدم التدخل الخارجي. والرؤساء الثلاثة عشرة بينهم أربع شخصيات تعاقبت على قيادة الجيش: اللواء شهاب، والعماد لحود، والعماد سليمان، والعماد عون، فيما أنهى ثلاثة منهم إضافة إلى الرئيس الجميل فراغاً في الرئاسة.
ومفارقة الواقع اللبناني اليوم، التركيبة السياسية الداخلية غير القادرة على إنتاج رئيس بصفة توافقية وبشبه إجماع، وبالتالي كثرة التدخلات في وقت لم يعد ترف الخيارات متوفراً، لجهة الشخصيات أو تقاطع البرامج وإن بدت موجودة شكلاً، فيما يتعلق الأمر بمشاريع إقليمية ودولية غير واضحة أو محسومة الاتجاهات، وبالتالي يعتبر الحراك القائم اليوم صراعاً حول مستقبل غير محدد لطبيعة النظام ودوره وسط ظهور معالم ذات طبيعة جغرافية سياسية مغايرة، يمكن أن تطيح بمجمل الوضع القائم حالياً.
وبصرف النظر عن الظروف المرافقة للانتخاب الرئاسي ونتائجها، ثمة استحقاقات مصيرية كثيرة تنتظر الرئيس المنتخب، منها أولاً قضايا داخلية متصلة بإعادة تركيبة السلطة وانطلاقها بشؤونها الداخلية، وكذلك الظروف الخارجية الخطرة التي يمكن أن تنسف معظم النظم السياسية القائمة حالياً، وبالتالي فإن مسؤوليات الرئيس هي بمستوى وطن يبحث عن موقع ودور له في إقليم ملتهب يعاد تركيبه وسط نظام دولي هلامي غير مستقر المعالم والتوازنات.
0 تعليق