هل تأخّر المثقفون العرب قليلاً، قرناً مثلاً، عن إدراك استحالة فصل الثقافة عن الجغرافيا السياسية؟
لا يجوز تحميلهم المسؤولية، أو الذنب، فالديار العربية لم تُنشئ بناتها وبنيها على أن الثقافة شأن سياديّ. لا ولا تلك من شيم مناهج العرب.
وجهة نظر معقولة، إذا حصرنا الثقافة في الشعر الغنائي والأغاني الطربيّة، بل حتى لو ارتقينا إلى «البيان والتبيين» و«رسالة الغفران»، والروائع السنباطية، ثم إلى قمم الفلسفة والموسيقى السيمفونية، وبدائع الحكمة والتصوف في المعارف الشرقية. لكن، في الحقب الحالكة، تُفتقد شمس الثقافة المتوهجة بإشعاع السيادة، ثقافة الفعل الإشراقية.
أغرب المستغرب أن مشهد ثقافة الفعل السيادية ليس غريباً عن العرب. في الجاهلية كان الشعر، من خلال الشاعر، يلعب منظومة أدوار حيوية على كل مسارح الحياة العامّة. كان الناطق بلسان سيادة القبيلة، وكبريائها وفخرها ومفاخرها وبلا منازع. كان لسان كل الميادين السيادية. كان هو الذي يصدح ويصدع: «ملأنا البرّ حتى ضاق عنّا».. «إذا غضبت عليك بنو تميمٍ»... في العصور الإسلامية ظل انحصار الثقافة السيادية في أيدي روّاد الشعر، الذين صاروا لسان سيادة الدولة، الناطقين بلسان ثقافة السيادة. في القرن العشرين، بل منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، لم تأفل الثقافة السيادية، إلاّ في النصف الأخير من القرن الماضي.
يقيناً، العمود ليس مركز بحث علمي، وإنما مجرّد إشارات وتنبيهات، فأسباب الأفول شتى، ربما لذوبان الشمع واحتراق الفتيل، أو لريح نفخت عليها. حادثات الليالي كثيرة. الأسرة كانت تعهد بتربية العقول للمدرسة، والمناهج كانت ترى وظيفتها في ملء أوعية الأمخاخ بالمقرر.
أطرف الطريف أن مرجعيّات ثقافة الفعل أعرض عنها المثقفون العرب، لعلهم أدركوا أن الواقع الجيوسياسي والجيوستراتيجي الدولي، وأهوال أحوال المنطقة العربية، لم تعد قادرة على الإنشاد بصوت أوبرالي: «إذا بلغ الرضيع لنا فطاماً.. تخرّ له الجبابر ساجدينَا»، أو «تمرّ بك الأبطال كَلْمى هزيمةً.. ووجهك وضّاحٌ وثغرك باسمُ»، أو عشرات الألوف غيرها. لكن المتأهب لدخول البيت الأبيض، فخامة ترامب، فاجأنا بذائقة الشعر العربي، غير أنه لاح متحيّزاً للشعر الحديث، ولمحمود درويش بشكل خاص. وجد الرئيس في إحدى أشهر القصائد منهجاً سياسيّاً نهماً في تنويع شهيّة المِلْكية. القصيدة أشهر من نار على غزّة: «هذا البحر لي.. هذا الهواء الرطبُ لي»، فانبرى دونالد يُنشِد ويَنشُد: «هذا الشرق لي.. ولي كندا، ولي بنما، وغرينلاند لي.. تايوان لي.. والكوكب الأرضيّ لي».
لزوم ما يلزم: النتيجة التوضيحية: لغير العارفين، المعارضة في الشعر، هي النسج على منوال بحر قصيدة الشاعر وقافيتها.
[email protected]
0 تعليق