الصراع على الدولة السورية - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

أول أمر كشف عنه سقوط النظام السوري، وربما أخطره، غياب الثقافة السورية العامّة عن ماهية الدولة، أو بالأحرى الدولة الحديثة. ولا يبدو الأمر للعارف بالأوضاع السورية مستغرباً، فمنذ سبعينات القرن الماضي، احتكر حزب البعث السلطة، وأعطى نفسه من خلال المادة الثامنة في الدستور حقّاً حصرياً بإدارة الدولة والمجتمع، وكان أخر عهد لممارسة السوريين السياسة قد انتهى مع قيام الوحدة بين سوريا ومصر في عام 1958، وحلّ الأحزاب آنذاك، ولم يتسنّ للسوريين خلال نظام البعث ممارسة العمل الحزبي، إلا بدلالة البعث نفسه، أو أحزاب «الجبهة الوطنية»، وكانت جميعها تدور في فلك البعث والسلطة، من دون أن يسمح لها بالعمل في العديد من القطاعات.
بعد عام 2011، فضّل النظام عدم الحوار مع المعارضة السياسية، مع أن بعض رجالات الدولة حينها، قدّموا نصائح عقلانية، لمصلحة سوريا، كدولة ونظام وشعب، لكن سرعان ما أُخرجوا من المشهد، واختار النظام بشكل حاسم عدم تقديم أي تنازلات سياسية، ودخلت سوريا لسنوات في حالة انقسام مجتمعي، زاد من تعقيداتها معاناة السوريين، الذين نزحوا من بيوتهم أو اضطروا للجوء إلى دول الجوار أو أوروبا، وقد دفعت عموم الأوضاع الكارثية، إلى حالة ربط نهائي بين السلطة وبين الدولة، وألغت كلّ تمايز فيما بينهما، وصارت الدولة في الوعي السوري العام هي السلطة، في ترسيخ أعمق للفكرة التي بدأت منذ سبعينات القرن الماضي.
في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وصلت إلى قيادة البلاد فصائل مسلّحة أي إنها انتقلت من واقع المعارضة المسلحة إلى حكم الدولة، وأمامها واقع معقد جداً، من حيث الأمن والاقتصاد ومؤسسات الدولة، بالإضافة إلى مهمة إقناع المجتمع الدولي بأنها قادرة على إدارة مرحلة انتقالية، فالدول لا يمكن أن تساعد السوريين بشكل كبير ومؤثر إذا لم تتأكد من أن السلطة الجديدة تعي ماهية الدولة، خصوصاً في بلد منكوب مثل سوريا، ولا تزال أوضاعه الأمنية هشّة جداً، وبالفعل، فقد أبدى العديد من ممثلي الدول الذين التقوا القيادة الجديدة مخاوفهم تجاه مسائل عديدة، من أبرزها إدارة التنوّع الاجتماعي السوري، أي التنوع الإثني والديني والمذهبي.
كان النظام طوال السنوات الماضية يهدّد الداخل والخارج، بأن سقوطه سيعني حدوث حرب أهلية، لكن على الرغم من حدوث خروقات أمنية عديدة في مناطق معينة، إلا أن المؤشرات تقول: إن هذا السيناريو، تراجعت نسبة تحقّقه حتى اللحظة، لكن ظهرت مؤشرات لا تقلّ خطورة، وتثير مخاوف لدى قطاعات واسعة من السوريين، تتعلّق بالتعيينات التي أجرتها القيادة الجديدة، والتي تنتمي إلى لون واحد، فجميع من عيّنتهم القيادة في مناصب عليا، هم من رجال الفصائل نفسها، من دون الأخذ بالحسبان الحاجة إلى إرسال رسائل إيجابية حول المشاركة في السلطة، وتبرّر القيادة هذا الأمر بأنه مؤقت، كما أنها تحجم عن إعلان مواقف واضحة بشأن قضايا سياسية وحقوقية، وتعتبر أن البت في هذه القضايا سيكون من شأن اللجان المختصة، أو ستكون نتيجة توافقات المؤتمر الوطني.
في ثنايا معظم القضايا التي أحدثت حالات انقسام بين السوريين خلال الفترة التي تلت سقوط النظام، تظهر حالة صراع على الدولة، أو تعريف ماهيتها، فإجراءات القيادة الجديدة تظهر ميلاً إلى منح الدولة هوية عقائدية محدّدة، ووفق رؤية محدّدة للعقيدة نفسها، ليست بالضرورة هي رؤية جميع من ينتمون إلى دين الأغلبية المسلمة في سوريا، في الوقت الذي تزداد فيه معاناة السوريين اليومية، إذ إنه حتى الآن غير معلوم ما إذا كانت القيادة الجديدة ستستمر في دفع رواتب موظفي الدولة، خصوصاً أن الخزينة السورية شبه فارغة، ولا يبدو أن هناك أي تدفق مالي وازن من شأنه أن ينقذ الخزينة، فهذا التدفق رهن أمور عديدة، من بينها رفع العقوبات الأمريكية بشكل نهائي، وكذلك ثقة المجتمع الدولي بأن العملية السياسية ستلبي متطلبات عموم السوريين، أي أنها ستكون على مسافة واحدة من الجميع.
الدولة الحديثة بالتعريف هي دولة كلّ المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية والدينية والمذهبية والجندرية، وهي تكفل للجميع حرية الاعتقاد، وممارسة الشعائر، كما أن الدولة قبل كل شي هي جهاز خدمات عام، وظيفته تأمين أفضل الظروف للنمو والتنمية، وبالتالي، فإن الهروب من هذين الاستحقاقين في سوريا، أي عدم تأكيد القيادة الجديدة على حيادية الدولة، والاهتمام سريعاً بالمؤسسات، من شأنه أن يزيد من حدة الانقسام السوري حول الدولة وطبيعة وظائفها العامّة، وقد يدفع إلى دورة جديدة من العنف في البلاد، في الوقت الذي لا تزال فيه القوى الإقليمية والدولية تتصارع على حصّتها من سوريا.
لا تحتمل سوريا، دولة ومجتمعاً، أدلجة دينية للدولة، أو الحدّ من الحريّات الاجتماعية، ولا تحتمل أي تأجيل في إقرار مواقف تطمئن فئات واسعة من السوريين، أو تظهر للمجتمع الدولي بأن القيادة الجديدة تدرك تماماً ضرورة عدم تحويل الدولة التي يفترض أنها للجميع إلى مجال تنازع هويّاتي.

[email protected]

أخبار ذات صلة

0 تعليق