هل يشغل فكرك احتداد جفاء الفصحى في بلاد العرب؟
المأساة أعظم، فحتى العامّيّة تدهورت، كانت لها أيّامٌ، أيّامَ قول أحمد شوقي: «لا أخاف على الفصحى إلاّ عاميّة بيرم التونسي». كان على حق. تأمّل الهندسة الداخلية للقوافي في كلمات «ليه يا بنفسج». رسم بالكلمات.
أصل الطرح أنكى، فمنذ النصف الأخير من القرن العشرين بدأت سلسلة من التدحرج المتوالي، وظهرت علائم نقص المناعة في سلامة اللغة، في وسائط الإعلام بصفة خاصة. ثم كانت الانهيارات اللغوية مع استفحال وسائط التواصل الاجتماعي. كانت الصحافة العربية، منذ العقد الثالث من القرن التاسع عشر، أي منذ صدور«الوقائع المصرية» سنة 1828، وحتى العقود الأولى من القرن العشرين، واضحة الصلة بالأساليب الأدبية، المطبوعات الساخرة بخاصة، التي لم تحظ إلى يومنا هذا، ببحوث عميقة ودراسات وافية، لأسباب انقراضها.
ولو هبّت تحقيقات ضافية في هذا المجال، لانتهت، ولا فخر، إلى أن الأوضاع العربية، يخزي العين أنها قد غدت كاملة الأوصاف وحازت الفضائل كلها، فلم تعد ثمّة حاجة إلى صحافة ساخرة تنقد أو تنقض أو تنفض. أين روائع عبدالعزيز البشري في مصر، وحبيب كحّالة في «المضحك المبكي» السوريّة، و«الدبور»اللبنانية، و«النديم» التونسية..؟
اليوم، أضحت الفضائيات تتخذ من العامية «بطيخة صيفي» في بطنها، ترتاح إليها، تطمئن وتسكن، فصندوق الشرور والبلايا النحو والصرف ومزالق الشكل والإعراب، فالحل عندها أن تنأى عنها وتغنّي لها. من مكرمات المصادفات، التي جرت رياحها بما تشتهي وسائط الإعلام، أن عشرات المؤلفات القديمة والحديثة، التي كُتبت في أخطاء العوام والخواص والإعلاميين، لم يعد الكثير من موادها صالحاً أو قابلاً للتطبيق والاستعمال اليوم.
من باب الصدق والنزاهة، ضرورة الاعتراف بأن أغلبية تلك التصحيحات، تستند إلى سلامة العربية في عصور غير عصرنا، أي أن عدداً كبيراً من تلك التصويبات الحديثة لم يراع الفارق الزمني الذي تطوّرت فيه المعاني والدلالات. للتوضيح: تكفي جولة ممتعة في كتاب «قل ولا تقل» للعلاّمة العراقي الراحل د. مصطفى جواد، وأصله برنامج كانت تبثه إذاعة بغداد.
للعاميّة أن تكيل وافر الثناء للغويين العرب، الذين أسدوا إليها خدمات إلى أجل غير مسمّى، بإحجامهم عن تبسيط قواعد اللغة، وكأن لحن اللحن يطربهم، والفصاحة ترعبهم، والبلاغة ترهبهم. ما على أكثرية الفضائيات إلاّ البحث لها عن رسالة إعلامية، في الحدّ الأدنى، عن وظيفة إعلاميّة، فلا يليق بأفخر الديكورات أن تكون لغتها عائبةً شائبةً، وعلومها غائبةً، وفنونها خائبة.
لزوم ما يلزم: النتيجة اللغوية: أهمّ ما تطلبه من أيّ صاحب منبر، ألّا تكون لغته لغواً.
[email protected]
0 تعليق