ليس هناك أي تشخيص دقيق لما يمر به العالم اليوم من ضبابية وعدم يقين حول مستقبل العلاقات الدولية، في ضوء المستجدات الأمريكية وتقلبات الإدارة الجديدة برئاسة دونالد ترامب ومزاجها المتغير على مدار الساعة إزاء قضايا داخلية وأزمات دولية كبرى كانت نتتظر «انفراجات»، بناء على وعود حاسمة تعهد بها ترامب قبل عودته إلى البيت الأبيض.
منذ أكثر من أسبوعين، تتخذ إدارة ترامب مواقف وقرارات بعيدة عن السياق التاريخي، ومن خارج صندوق السياسة الأمريكية الذي بنته عقود من الثوابت والخيارات والتحالفات. ومن المألوف أن الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض، تتوارث الملفات والقضايا التي تحكم مصالح واشنطن الاستراتيجية، وأهمها تعزيز حضورها الدولي بناء على علاقاتها المتينة مع القوى الليبرالية أو ما يعرف ب«العالم الحر»، الذي تتزعمه وتوفر له أسباب التمدد والهيمنة، وتهندس له الاستحقاقات والتحديات وحتى الحروب والنزاعات، وهو ما قد يدفعها في بعض الأحيان إلى «صناعة» الخصوم والأعداء ليبرروا لها فرض أجندتها الدولية وجعل قوى كثيرة لا تستغني عن مساعداتها ودورها وحمايتها.
أما اليوم، فيبدو المشهد متغيراً، وتوحي مؤشراته بأن الولايات المتحدة، تحت زعامة ترامب، باتت مصدراً للقلق والاضطراب في جميع أنحاء العالم، عبر استفزاز حلفائها وأقربهم كندا ودول الاتحاد الأوروبي وأغلبية بلدان أمريكا اللاتينية، وسلاحها في ذلك رفع الرسوم الجمركية بنسب عالية، وترحيل المهاجرين غير النظاميين، والتهديد العشوائي بضم كندا والاستيلاء على جزيرة غرينلاند الدنماركية وفرض السيطرة على قناة بنما، والتوجه إلى فرض «إتاوات» على الشركاء الأوروبيين، والتلويح بتهجير الشعوب من أراضيها، مثل الحديث المتكرر عن ترحيل سكان قطاع غزة الفلسطيني، والزعم بأنه «لم يعد صالحاً للحياة» بعد أن أتمت إسرائيل مهمة تدميره.
إذا كان هذا حال الإدارة الأمريكية مع حلفائها وفضاءاتها الحيوية، فإن الوضع مع الخصوم التقليديين الكبار مثل روسيا والصين، سيتأثر بدوره بهذه السياسة المتقلبة، وسيطغى عليها منطق الصفقات والربح والخسارة بمعناه المادي، وهو ما لا يساعد على رسم سياسات ثابتة، ولكنه سيفاقم حالة القلق ويعمق الانقسامات العالمية، وقد يفجر صراعات إضافية ويعكر أزمات راهنة. وعلى سبيل المثال، مازالت حالة الصراع الأوكراني في مفترق طرق، ولا توجد أي تحركات عملية بين واشنطن وموسكو لمعالجة هذه القضية، ولم يتبين إلى الآن موعد القمة المفترضة بين ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين ولا مكانها، في الوقت الذي تصدر فيه إشارات متضاربة من الجانبين تخلط المفاهيم وتشتت الأفكار حول المسار الذي يمكن أن تسلكه الأزمة بعد ثلاث سنوات من انفجارها ولم تبلغ بعد نقطة الحسم.
على الجانب الآخر من العالم، تقف الصين مترصدة سياسات ترامب وتكمن له في ميادين عدة، تجارية واقتصادية وتكنولوجية، وليس هناك ما يشير إلى أن العلاقة ستكون هادئة وبناءة. والمعركة بينهما ربما ستبدأ بتبادل فرض الرسوم الجمركية وتتمدد إلى مجالات أخرى، وأخطرها سيكون الذكاء الاصطناعي، الذي سيكون سلاح الفتك لدى الجانبين، وسيحكم على مصير العلاقة بين البلدين العملاقين، وقد يكون المدخل الفعلي لإعادة بناء النظام الدولي، وإحداث تغيير جذري في العالم بأسره.
[email protected]
0 تعليق