لا يكاد يمر يوم منذ تولى دونالد ترامب رئاسة أمريكا، إلا وقد عكف خبراء السياسة في أمريكا، والمختصون أساساً بمعنى الديمقراطية، على إعادة طرح الوضع الذي كانت أمريكا تتباهى به من أنها مهد الديمقراطية، وحيث ظلت تخاطب دول العالم وتطالبها بأن تحذو حذوها في الالتزام بالديمقراطية بصفتها سياسة وعقيدة.
وضمن ما توقف عنده المتابعون لما يجرى الآن في أمريكا، تلك الدراسة المتعمقة للمجلة البريطانية الشهيرة «إيكونوميست» التي قالت إن الوضع الحالي في أمريكا بعد أداء ترامب لليمين بصفته رئيساً، هو أن أمريكا في عهده لم تعد ضمن الدول التي تنعم بديمقراطية، حتى لو قورنت بدول تسودها بالفعل ديمقراطية كاملة، مثل كندا واليابان، ومعظم دول أوروبا، لكن أمريكا الآن تعاني تصدعاً ديمقراطياً وهو ما أصيبت به دول مثل إسرائيل.
ثم جاءت انتخابات ترامب، لتطرح سؤالاً ملحاً هو هل في مقدور ترامب أن يصمد أمام رفض داخلي من حشود أمريكية، رافضة لتفكيره، وهو ما يعني أن انتخابه يهبط بمستوى أمريكا بصفتها دولة إلى درك جديد من التراجع وخيبة الأمل.
ويصاحب ذلك سؤال آخر هو، هل تستطيع المؤسسات الأمريكية أن تدعم مقاومة ترامب، للمفاهيم التاريخية، خاصة أنه اتخذ مساراً لم يسبقه إليه أي من الرؤساء الذين سبقوه.
هنا طرحت مؤسسة Project Syndicate سؤالاً فاصلاً: هل تستطيع المؤسسات التقليدية الأمريكية التي اعتادت الحفاظ على التراث التاريخي والسياسي للدولة أن تصمد أمام خروج ترامب عن المألوف.
عندئذ استطلعت المؤسسة آراء خمسة من كبار الخبراء المتخصصين في هذا المجال، وقد أجمعوا كلهم على أن ترامب بدأ رئاسته الثانية بطريقة يصعب معها رؤية أي أمل يبشر بالخير، في وسط الضباب الأسود الذي يحيط بترامب من كل ناحية.
ومن ناحيتها نشرت صحيفة «الغارديان» مقالاً كتبه كاس ميود، تحت عنوان «هل سيدمر ترامب الديمقراطية الأمريكية؟. وأشارت الصحيفة إلى أن ترامب اختار في ثاني خطاب لتنصيبه في انتخابات 2024، أن يتكلم وكأنه دكتاتور وليس بصفته رئيساً.
وعقبت على نفس الخطاب جنيفر ميرسيكا خبيرة النظم الديمقراطية، وقالت إن خطاب ترامب لم يكن مثل أي خطاب رئاسي، وأنه تعمد الابتعاد في جلسة تنصيبه عن الاحتفالات التقليدية التي يتم فيها تأكيد قيمة الديمقراطية بصفته تراثاً أمريكياً، بل إن خطابه كان أقرب ما يكون إلى خطاب إعلان الحرب، ومن ثم، ابتعدت خطبته عن المألوف، حين تباهى بامتلاكه القوة وتمكنه منها بخلاف أي خطاب رئاسي في تاريخ أمريكا، وأنه سعى في فترة رئاسته الثانية قاصداً أن يكون دكتاتوراً، وهو ما ظهر من خطابه الذي لم يكن يتحدث فيه بصفته رئيساً.
في نفس الوقت الذي أظهرت فيه استطلاعات للرأي أن الأمريكيين يعتقدون الآن أن الديمقراطية في أمريكا في خطر، وهو ما أظهره آخر استطلاع للرأي من أن ثلثي الديمقراطيين و80٪ من الجمهوريين يعتقدون أن الحكومة الأمريكية تخدم نفسها والقوى المساندة لها على حساب الأفراد العاديين من الشعب الأمريكي.
وعلقت على ذلك كارولين كامبل أستاذة الاتصالات والصحافة بجامعه تكساس بقولها إن ترامب تجاوز كافه معايير الحاكم التي تقضي بأن الرئيس الجديد لا يمكن أن يكون ديكتاتوراً، أو ملكاً، أو حاكماً مستبداً.
وأضافت أن خطاب ترامب لم يظهر أي دليل على الحنو على الجنس البشري، فقد جاء صادماً للحس الإنساني الطبيعي، ومن حيث إنه لم يعترف بأن هناك حدوداً دستورية لسلطة الرئيس، وهو ما لم يحدث في تاريخ الرؤساء الذين سبقوه.
في نفس الاتجاه تساءلت الكاتبة جين كارول في دراسة لها تحت عنوان: «هل تستطيع الديمقراطية الأمريكية أن تعيش تحت رئاسة غير مسؤولة»، وقالت إن النظام الجديد سوف يقف خارج حدود الأنظمة السليمة والعفيفة.
لكن ارتفعت تساؤلات من المتابعين للمشهد الحالي، تتساءل عما إذا كان ترامب قد انقض على مفهوم الديمقراطية، أم أن هناك من سبقوه للطريق؟
فمثلاً كتبت فانيسا ويلياسوم أستاذة العلوم السياسية تقول إن هناك من الخبراء الذين اتفقوا على أن سلامة جوهر الديمقراطية الأمريكية كانت قد تدهورت، وإن بدايات الهبوط كانت خلال الأربعين سنه الماضية، وإذا استمرت أمريكا في نفس الطريق خلال العامين القادمين، فسوف يتم تجريف المحتوى الديمقراطي في مختلف مؤسسات الدولة.
وسبق أن نشرت قيادات مسؤولة بوزارة الخارجية في فترة رئاسة جو بايدن، خروجاً على ما تلزمه به القوانين الأمريكية، التي تلزم الرئيس بعدم تزويد دولة صديقة أو حليفة بالسلاح، إذا كانت تستخدمه في انتهاك لما تنص عليه القوانين الأمريكية. وكانت هذه القيادات تقصد دولة إسرائيل، بما كشفت عنه من معلومات، وقالت فيما نشرته وقتها في الصحف الأمريكية، إن بايدن رفض مشورة الإدارة المختصة بوزارة الخارجية، وأنه قرر الاستمرار في تزويد إسرائيل بالسلاح، حتى ولو كانت تنتهك قوانين أمريكا ذاتها.
المشهد الآن في أمريكا يبين أن ما يجري هناك يتناقض تماماً مع التعريف التاريخي الأمريكي لمعنى الديمقراطية، وحيث كانت الديمقراطية ترتبط بضمانات للحريات الفردية وحقوق الإنسان. وأن تكون الانتخابات تنافسية، بما يتيح للشعب أن تكون له في أجواء هذه الديمقراطية، سلطات مباشرة وفعالة ليقرر وفقاً لها، ما يصدر من قوانين، وما يتخذ من سياسات في أجواء ديمقراطية تمثيلية.
0 تعليق