شيخوخة مجتمع «جديد» - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

د. يوسف الحسن

لم تكن خطبة صلاة الجمعة في أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي، مجرد خطبة روتينية للوعظ والتذكير، تداولها البعض متندراً، وتساءل آخرون عن مقاصدها، وما وراء دعوتها الشباب إلى الزواج، والتذكير «بالمثنى وثلاث ورباع المشروطة بالعدل».
في الملتقى الثاني لمفكري الإمارات، والذي نظمه مركز الإمارات للبحوث والدراسات الاستراتيجية في 28 يناير/ كانون الثاني الماضي، توقفنا، أمام محور مهم يحمل عنواناً مثيراً للقلق: «شيخوخة المجتمع: أين نحن الآن؟».
تابعت مع زملاء وأصدقاء، ما أثاره مغير الخييلي، رئيس دائرة تنمية المجتمع في أبوظبي، من قضايا ومبادرات، ذات صلة بمسألة «شيخوخة» مجتمع الإمارات، وما تطرحه من تحديات تهدد مستقبل الديموغرافيا الوطنية، وتتطلب مبادرات لتعزيز دور الأسرة، وتشجيع الشباب على الزواج. والسعي الجاد لرفع معدل الخصوبة Fertility Rate في المجتمع الوطني.
من نافل القول، أن نخباً مثقفة وأكاديمية، تحدثت منذ أكثر من عقد من الزمان، عن مخاطر انخفاض معدل الخصوبة في المجتمع، حينما وصل في نهاية القرن الماضي إلى (2.7) طفل لكل امرأة، لكن لا أحد كان يتوقع أن ينخفض هذا المؤشر إلى (1.4) بحلول عام 2022، وفقاً لإحصائيات البنك الدولي. وقد ترافق ذلك مع اتجاه الهرم السكاني الوطني نحو الشيخوخة، ما يعني في نهاية المطاف، تراجع عدد السكان المواطنين، فضلاً عن تداعيات سلبية تطال الكثير من القطاعات، وبخاصة في ظل تركيبة سكانية عامة مختلة، وتحولات عالمية يصعب التكهن بمآلاتها وطبيعتها.
ورغم أن الشيخوخة السريعة، الناتجة عن انخفاض المؤشر القياسي الديموغرافي للخصوبة، قد أصابت العديد من المجتمعات النامية والمتقدمة، إلا أن ذلك الانخفاض، استغرق في دول متقدمة ما بين 80-120 عاماً، في حين أن الانخفاض في معدل الخصوبة في الإمارات، كان سريعاً، وجرى خلال أقل من أربعين عاماً.
إن معدل الخصوبة المنخفض عن المعدل الإحلالي والضروري لاستدامة استقرار عدد السكان والمقدر بـ(2.3)، يصعب التحكم فيه، ويشكل عبئاً ثقيلاً على الاقتصاد والتنمية والميزانيات الحكومية، ونظم الرعاية الاجتماعية، والإنتاجية، وعلى أعداد القوى العاملة، وغير ذلك في القطاعات الرئيسية.
وها هي مجتمعات متقدمة، وذات نجاحات اقتصادية مبهرة، قد انخفضت فيها معدلات المواليد، ووصل في بعضها كاليابان، إلى مستوى أقل من (1.4). وأمست «مجتمع شيخوخة فائقة»، منذ عقد ونصف العقد.
وكذلك الأمر، في كوريا الجنوبية؛ حيث شهدت انخفاضاً قياسياً في معدل الخصوبة (1.1) في السنوات الأخيرة، واستثمرت كوريا الجنوبية في مواجهة هذه الكارثة أكثر من 280 مليار دولار في البرامج الاجتماعية الرامية لتشجيع وتنمية الأسرة التقليدية.
كما انتشرت هذه الظاهرة في أوروبا، في دول مثل: ألمانيا وفرنسا والسويد وفنلندا وغيرها.
وتشير إحصائيات دولية، أنه بحلول عام 2050 يتوقع أن تكون أعمار ثلث عدد سكان أوروبا فوق 65 عاماً. وتذكر بيانات أوروبية، أن مدارس للأطفال في بعض القرى الألمانية، قد أغلقت أبوابها؛ بسبب ندرة الأطفال فيها.
وفي آسيا أيضاً، تراجعت أعداد المواليد في دول مثل: تايوان وهونغ كونغ وسنغافورة، فضلاً عن الهند، والتي كانت نموذجاً للنمو السكاني السريع؛ حيث شهدت الهند في السنوات القليلة الماضية، انخفاضاً حاداً في معدل الخصوبة، والذي وصل إلى (1.9)، بعد أن كان نحو (5.7) قبل سبعة عقود.
وفي الإمارات، كمجتمع (دولة رعاية Wel fare state)، شهد ازدهاراً اقتصادياً متسارعاً، وتحولات بنيوية ومؤسساتية ومتغيرات ثقافية واجتماعية، تركت آثارها في العديد من المرجعيات الوطنية، من تقاليد وأعراف، وترتيب أولويات، وتوسيع في الخيارات، وجاءت في سياق صيرورة التحولات التاريخية والمجتمعية خلال العقود الستة الماضية، فضلاً عن ثورات الاتصال والمعلومات والمعرفة والتقانة والعولمة، وتغيرات الديموغرافيا العامة في البلاد.
تحولات عميقة متسارعة جرت، وتشكلت أنماط حياة مرتبطة بالرخاء الاقتصادي، من بينها «ثقافة عمل» حديثة غير صديقة للأسرة، وارتفاع معدلات السمنة التي تؤثر في معدلات الخصوبة وأكلاف عالية لحضانة الأطفال، وتربيتهم، في نظام تعليمي تنافسي.
كما جرت تغيرات في عناصر القيم وأنساقها، وفي أدوار المؤسسات التقليدية للتنشئة، تعطّل بعضها، وتآكل بعضها الآخر، ودخلت هذه المؤسسات التقليدية، في منافسة مع مصادر أخرى للتنشئة أفعل وأكثر بهرجة وإغراء، وأفتك.
ورأينا كيف ارتفعت مؤشرات ثقافة (الاستهلاك البذخي)، وثقافة «الربح السريع»، و«تأليه» قيم السوق المتفلت بلا ضوابط، وكيف تغير أنموذج «القدوة» لدى الأجيال الشابة، وسادت أنماط سلوك وتفكير لدى جيل شاب، رأت أن (التقدم المهني، له الأولوية على تكوين الأسرة) واعتقدت أن (جودة الحياة تتطلب عدد أطفال أقل).. إلخ.
إن بناء وتعزيز منظومة قيم، تُعلي من شأن وقيمة «الخصوبة»، والأسرة المتماسكة والمسؤولية الاجتماعية والوطنية، والقيام بالواجبات تجاه الوطن، أكثر مما يُطلب من حقوق ومنح وغنائم. إن هذا البناء والتعزيز لا ينجزان بين عشية وضحاها، إنما سيأخذان مساراً قد يكون طويلاً ومتشعباً، في البيت والمدرسة والجامعة والنادي والمؤسسة والمجتمع المدني، ومن الصعب عزل مفردات القيم عن بعضها، باعتبار أن القيم تنتظم عادة في نسق قيمي هرمي مترابط، ومرتب حسب أهمية القيمة وأولوياتها.
إن تأخر الزواج والإنجاب، وتزايد ظواهر الطلاق، والاختيارات السلبية للأجيال الشابة في قضايا الأسرة هي مسائل لا تتمّ في فراغ، وإنما تأتي في إطار تحولات قيمية وثقافية، وتراجع في بعض عناصر منظومة القيم الإيجابية، ونقص في وعي الأجيال الشابة بمخزون هائل وثري من قيم الأسرة في موروثنا الوطني والعربي والإسلامي.
نعم.. هي مسؤولية وطنية. لا تخص دائرة حكومية هنا أو هناك، أو وزارة معينة أو قطاعاً اجتماعياً أو ثقافياً أو إعلامياً. والقلق بشأنها مشروع، وتحدياتها كبيرة وثقيلة، وذات صلة بالنسيج الاجتماعي، وبحفظ المجتمع الوطني البشري، وبما يضمن استمراره وتماسكه وعافيته، وباعتبار أن التكاثر البشري هو عنصر أساسي للحياة.
نعم.. إن صوت المجتمع، وفي «عام المجتمع»، مهم جداً لمواجهة تحديات «شيخوخة المجتمع»، والنهوض بإرادة الأجيال الشابة وبوعيها.
[email protected]

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق