شكلت الشراكة عبر الأطلسي بين أوروبا والولايات المتحدة طوال ثمانين عاماً، أي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 حتى الآن، العمود الفقري للنظام الدولي الثنائي حتى انهيار الاتحاد السوفييتي في مطلع تسعينات القرن الماضي، وكانت هذه الشراكة مستوحاة من الفكر الرأسمالي النيوليبرالي لتعزيز العلاقات بين دول ضفتي الأطلسي التي تجمعها القيم الفكرية والسياسية والاقتصادية والأمنية الواحدة، باعتبارها تشكل حصناً منيعاً في مواجهة الاتحاد السوفييتي وتمدد الفكر الشيوعي.
وقد تم تشكيل حلف الأطلسي عام 1949 كتحالف عسكري من 12 دولة، إلى أن وصل العدد الآن إلى 32 دولة، كوسيلة لردع الخطر الشيوعي، لكن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك المنظومة الاشتراكية ومعها حلف وارسو، انتفى مبرر وجود الحلف، لكن الدول الغربية، وخصوصاً الولايات المتحدة، تمسكت به باعتباره أداة عسكرية تستخدمه متى احتاجت إليه، كما حصل في أفغانستان والعراق وصربيا وليبيا، كما شكلت الشراكات الاقتصادية المتنوعة بين أوروبا والولايات المتحدة الوجه الآخر من التعاون بين ما يسمى نادي الأنظمة الديمقراطية على أساس نموذج (رابح رابح)، ولم يكن يخطر على بال بأن هذه الشراكة سوف تتبدل، وأن العلاقة بينهما سوف تتآكل على اعتبار أن العلاقة راسخة بين أنظمة ديمقراطية متماثلة تجمعها قيم ومصالح مشتركة.
لكن هذه الشراكة تعرضت خلال ولاية ترامب الأولى (2017-2021) إلى التشكيك، ثم إلى التآكل على خلفية الموقف من حلف الأطلسي واتهامه الدول الأوروبية بعدم المساهمة العادلة بميزانية الحلف، وتهديده بعدم توفير الحماية الأمنية لها إذا لم ترفع مساهمتها إلى خمسة في المئة من ناتجها الوطني، إضافة إلى العلاقات التجارية التي وصفها بغير العادلة بينهما.
خلال السنوات الأربع التي تولى فيها الديمقراطيون السلطة بعد ترامب تم فيها ترميم العلاقات مجدداً، وشكلت الحرب الأوكرانية القاعدة التي استعادت الشراكة عبر الأطلسي روح التعاون الذي أعاد العلاقات إلى مسارها السابق.
لكن بعد عودة ترامب الثانية إلى البيت الأبيض، بدأت ملامح الانفصال الاستراتيجي الاقتصادي والعسكري تلوح في الأفق بين ضفتي الأطلسي، بعد تهديده بفرض ضرائب جمركية جديدة على المنتجات الأوروبية، ومطالبته بزيادة المساهمة الأوروبية في ميزانية حلف الأطلسي، وتهديده بعدم توفير الحماية الأمنية للدول التي لا تلبي طلبه. ثم جاء موقفه من الحرب الأوكرانية ومباشرة المفاوضات مع روسيا لإنهاء الحرب من دون أخذ رأي أوروبا أو أوكرانيا، واتهامه الرئيس الأوكراني بالتسبب في الحرب، وأنه رئيس «غير شرعي»، إضافة إلى قراره وقف تقديم الدعم العسكري لكييف، كلها باتت تشكّل ألغاماً جاهزة للانفجار وتهدد التحالف الذي بات على ما يبدو يعيش آخر أيامه.
بالنسبة إلى ترامب، ومن خلال شعاره «أمريكا أولاً»، فإنه يضع مصالح أمريكا أولاً، ولا يهم إذا انهار التحالف على ضفتي الأطلسي، لأنه يرى أن هذا التحالف لا يقدم شيئاً للولايات المتحدة، بل يشكل عبئاً عليها، وقد يكون حلف شمال الأطلس (الناتو) أحد ضحاياه.
0 تعليق