د.باسمة يونس
لم تكن القراءة مجرد فعل تلقيني يمارسه الإنسان لتلقي المعرفة فحسب، بل هي في جوهرها رحلة فلسفية نحو الذات والعالم ووسيلة ناجعة لتمزيق حجب الجهل وكشف الأبعاد الخفية للواقع، ما يتيح للعقل الإنساني التأمل والتفكر والابتكار.
وكما لكل حضارة منطلقها الخاص في هذا المسعى الوجودي، كان للعرب نصيب مميز في رحلتهم مع القراءة، حيث استطاعوا تحويلها من أداة لتلقي المعارف إلى وسيلة لصياغة الحضارة وبناء المستقبل.
فقبل بزوغ فجر الإسلام اعتمدت المجتمعات العربية الرواية الشفوية والشعر كوسائل لنقل المعرفة والحكمة حيث كانت القصائد تعد بمثابة كتب متنقلة تحفظ تاريخ القبائل وأحداثها وأفكارها. ورغم غياب الكتابة المنهجية، كانت الذاكرة الجمعية للعرب بمثابة مكتبة حية، تغذيها القراءة السماعية للقصائد والأخبار والحكايات.
ومع نزول أول كلمة من القرآن الكريم «اقرأ» مثلت هذه الكلمة تحولاً فلسفياً عميقاً في الوعي العربي، وانتقل العرب من مرحلة الشفوية إلى مرحلة القراءة وربطها مع التفكر في آيات الكون والخلق، ودفع القرآن العرب إلى تعلم الكتابة وتدوين المعارف ما أسس لنهضة ثقافية ومعرفية لم يشهد لها العالم مثيلاً. وفي العصر العباسي، وتحديداً في بغداد، تأسس «بيت الحكمة» الذي يعد منارة العلم والمعرفة في العالم القديم، وتجسيداً حياً لفلسفة القراءة كجسر بين الثقافات والحضارات، وترجم العلماء العرب أمهات الكتب اليونانية والفارسية والهندية إلى العربية، ما مكّنهم من قراءة التراث الإنساني بأكمله والانطلاق نحو الإبداع والابتكار.
وتؤسس الإمارات اليوم لحضارة جديدة مزدهرة بتشجيع القراءة كمدخل لبناء الحضارات ونهضة الأمم من منطلق إدراكها أنه كلما ازدادت ثقافة المجتمع وارتفع مستوى الوعي المعرفي بين أفراده، انعكس ذلك إيجابياً على جميع جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وفي هذا السياق، وضعت دولة الإمارات القراءة في صلب استراتيجياتها لبناء حضارة جديدة ومزدهرة، فأعلنت عام القراءة في 2016 والذي شكل نقطة تحول في الاهتمام المجتمعي بالقراءة وبما تم إطلاقه من مبادرات ومشاريع مصاحبة مثل قانون القراءة، وتحدي القراءة العربي بهدف تشجيع الطلاب على قراءة 50 كتاباً سنوياً، وإنشاء مكتبات المستقبل التي توفر مصادر معرفية متنوعة، وتتيح للجميع الوصول إلى الكتب والمراجع بكل سهولة، ومعارض الكتب الدولية مثل معرض الشارقة الدولي للكتاب ومعرض أبوظبي الدولي للكتاب، ما يسهم في تعزيز مكانة الدولة كمركز ثقافي عالمي يجمع بين الحضارات والثقافات المختلفة ويمكن الأجيال الجديدة من التعرف إلى تراثهم الثقافي وقيمهم الوطنية.
إن تعزيز القراءة باعتبارها أساساً للأفكار والإلهام حجر الأساس لحضارة جديدة تعلي من شأن الإنسان والفكر والإبداع، وكما استطاع العرب في الماضي تحويل القراءة إلى أداة للابتكار والإبداع، يمكن للعالم العربي اليوم استعادة مكانته الحضارية والمساهمة بفعالية في صياغة مستقبل أكثر إشراقاً.
[email protected]
0 تعليق