د. محمد السعيد إدريس
يعيش الأوروبيون حالياً هاجس عجزهم عن تقديم إجابة يُعتدّ بها للسؤال الذي يقول: أي مستقبل ينتظر حلف شمال الأطلسي على ضوء التسوية التي تعد واشنطن لفرضها لحل الأزمة الأوكرانية؟ وهل يمكن بلورة نظام جديد للأمن الأوروبي بعيداً عن حلف شمال الأطلسي؟
العجز الذي يسيطر على الموقف الأوروبي بسبب غياب القدرة على الوعي بأن الأمن الأوروبي سيكون بمعزل عن حلف شمال الأطلسي على ضوء التوجه الأمريكي الجديد في عهد الرئيس دونالد ترامب الذي يدفع بالأمن الأمريكي خطوة خطوة بعيداً عن الالتزامات الأمريكية في حلف شمال الأطلسي.
عندما هاجمت القوات الروسية أوكرانيا قبل ثلاث سنوات أدرك الأوروبيون إلى أي مدى أضحى أمنهم مرهوناً بالمظلة الأمنية الأمريكية، لكن بعد انقضاء تلك السنوات أفاق الأوروبيون على صدمة انحسار الدافعية الأمريكية للإبقاء على الالتزامات لتأمين الأمن الأوروبي، على نحو ما تأكد في مخرجات «اللقاء التاريخي» بين وزيري خارجية الولايات المتحدة وروسيا في العاصمة السعودية الرياض وقبلها المكالمة الهاتفية بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين التي خرج بعدها ترامب ليقول إن «حلّاً في غضون أسابيع سيتحقق للأزمة الأوكرانية»، حينها أخذ بعض الأوروبيين يتحدث عن التحول الجديد في الموقف الأمريكي من أوروبا الذي يؤشر لتعمد أمريكي لتهميش أوروبا وتفكيك حلف شمال الأطلسي.
وجاءت الزيارات الثلاث لرؤساء فرنسا إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني كيرستارمر والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لواشنطن واللقاء مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في محاولة مستميتة للحفاظ على التحالف الأوروبي – الأمريكي وتوحيد الموقف من حل الأزمة الأوكرانية وتحسين خطة الحل الأمريكية لتلك الأزمة لتؤكد جدّية التوجّه الأمريكي بعيداً عن أوروبا، ورفض ترامب تقديم أي ضمانات أمريكية لتسوية الأزمة الأوكرانية.
وإذا كان لقاء ماكرون مع ترامب (24-2-2025) ولقاء ستارمر معه يوم (27-2-2025) قد أكد جدّية الرفض الأمريكي لتقديم أي ضمانات أمريكية وخاصة إرسال قوات أمريكية إلى أوكرانيا لضمان جدية التسوية المقترحة، فإن لقاء زيلينسكي مع ترامب (28-2-2025) كان عاصفاً بل مدوّياً وانتهى بما يشبه «طرد» الرئيس الأوكراني من البيت الأبيض، الأمر الذي استدعى قادة بريطانيا وفرنسا لعقد قمة طارئة في لندن (2-3-2025) حضرها إلى جانب كل من ستارمر وماكرون كل من المستشار الألماني أولاف شولتس ورئيسة الحكومة الإيطالية جيورجيا ميلوني وغيرهم، لكن هذه القمة ركزت على كيفية الحفاظ على التحالف الأوروبي – الأمريكي والتوصل إلى «خطة لوقف القتال» في أوكرانيا بالتوافق مع الولايات المتحدة، ومرتكز هذه القمة هو تقديم المزيد من الدعم المالي لأوكرانيا، في ظل التهديد الأمريكي بوقف المساعدات الأمريكية لأوكرانيا، واستعراض حدود الالتزام الأوروبي بتقديم ضمانات أمنية إلى أوكرانيا وبالتحديد نشر قوات أوروبية في أوكرانيا لتأمين وقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا.
رغم محدودية وضعف هذا الموقف الذي سيطر على قمة لندن الاستثنائية يوم الأحد الفائت فإن الدول الأوروبية لم تتوافق على هذا الالتزام، ففي حين أكدت كل من بريطانيا وفرنسا جدّية التزامهما بإرسال قوات إلى أوكرانيا رفض المستشار الألماني تقديم أي التزام من هذا النوع، أما إيطاليا وبولندا فقد تحمستا للقيام بوساطة مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وقد حذرت رئيسة الوزراء الإيطالية ميلوني من «خطر الانقسام»، مؤكدة أن إيطاليا والمملكة المتحدة «يمكن أن تؤديا دوراً مهمّاً في مد الجسور مع واشنطن».
والتزم رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك النهج نفسه قائلاً: «إن وارسو يمكن أن تستخدم علاقاتها الجيدة للغاية بالأمريكيين لإقناعهم بتقديم مزيد من الدعم لأوكرانيا».
هذا الانقسام هو الذي يسيطر حالياً على الموقف الأوروبي إزاء الجديد في الموقف الأمريكي ليس فقط تجاه الأزمة الأوكرانية، بل وأيضاً تجاه أوروبا، كما أنه يضع علامات استفهام قوية على كل ما طرح من أفكار حول ما يسمى ب «الصحوة الأوروبية» المتمثلة في تنامي الإدراك بأن المظلة الأمنية الأمريكية لأوروبا باتت مؤقتة، وأن على أوروبا أن تسعى إلى بناء رادع أمني أوروبي مستقل، وفي ظل وجود إدراك أوروبي مفاده أنه «لا يمكن فصل السلام في أوكرانيا عن الأمن الأوروبي حسب ما جاء على لسان انطونيو كوستا رئيس المجلس الأوروبي، الذي يرى أن«التهديد الروسي يتجاوز أوكرانيا».
هذا العجز الأوروبي يقلل كثيراً من شأن ما صرحت به كايا كالاس ممثلة الشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي بأن«أي صفقة مع روسيا لن تنجح إذا لم يوافق عليها الأوروبيون والأوكرانيون»، فتصريح من هذا النوع أضحى يثير السخرية تجاه أي تطلع أوروبي جاد للتأسيس إلى رادع استراتيجي أوروبي في وقت لم يعد يهزأ فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الاتحاد الأوروبي، بل تطور الأمر إلى اعتباره «عدواً» وتأكيده أنه «يستعد لضرب أوروبا برسوم جمركية بنسبة 25% على السيارات وسلع أخرى».
[email protected]
0 تعليق