د علي محمد فخرو
مثلما أُهمل أو أُجِّل الانتقال إلى الديمقراطية في شتّى الأيديولوجيات القومية العربية خلال القرن الماضي، كذلك حدث الأمر نفسه بالنسبة لمكوّن آخر بالغ الأهمية هو التنمية العربية المستدامة المستقلة. من هنا صدور العديد من تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عن تعثر مشاريع التنمية المستدامة الشاملة في معظم أقطار الوطن العربي سنة بعد أخرى.
لكن المجموعة الفكرية التي راجعت الفكر الأيديولوجي القومي منذ بضعة عقود واقترحت المشروع النهضوي العربي انتبهت للأمر وجعلت شعار وهدف التنمية المستدامة المستقلة أحد مكونات المشروع الستة (الوحدة العربية، الديمقراطية، الاستقلال الوطني والقومي، التنمية المستقلة، العدالة الاجتماعية والتجديد الحضاري). وهو ما يجعل بالضرورة التنمية المستقلة أحد مكونات بناء الحداثة العربية الذاتية التي يدعوا لبنائها الكثيرون.
وحتى تنسجم هذه التنمية مع ذاتية الحداثة العربية سيحتاج شباب وشابات الأمة أن يصّروا على ألا تكون تلك التنمية اقتصادية فقط، كما تريدها بعض مدارس الفكر الاقتصادي العولمي، وإنما أن تكون ضمن المعطيات التالية:
* أن يكون تعريفها شاملاً ومرتبطاً بحاجات المجتمعات العربية من مثل التعريف الذي وضعه الأخ الدكتور علي الكواري: بأنها «عملية مجتمعية واعية ودائمة موجّهة وفق إرادة وطنية مستقلة من أجل إيجاد تحوّلات هيكلية وإحداث تغييرات سياسية واجتماعية واقتصادية تسمح بتحقيق تصاعد مطّرد لقدرات المجتمع وتحسين مستمر لنوعية الحياة فيه».
* أن تكون من مكوناتها الفكرية الأساسية ما صدر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: الرفاه، بتوسيع الحريات الحقيقية للبشر لينموا ويرتقوا، والتمكين والقدرة على التغيير، والعدالة وتعزيز الإنصاف.
* توفّر شروط محورية لا يمكن بناء تنمية مستقلة من دون توفرها: توفّر رأسمال محلي تراكمي سواء على المستوى الوطني والمستوى القومي، وتوفّر قدرات تقنية وبشرية متطورة، بما فيها أخذ القدرات العربية الشاملة لكل الوطن العربي والقدرات العربية المهاجرة إلى البلدان المتقدمة بعين الاعتبار، وأخيراً وجود سوق عربية واسعة مشتركة متناسقة ومتضامنة في نشاطاتها.
* الخروج من الاقتصاد الرّيعي، بكل نواقصه ومحدودياته، إلى اقتصاد إنتاجي وخدمي ومعرفي وتكنولوجي ذاتي وغير طفيلي، وقادر على توليد ثروات جديدة تراكمية، مع ما يستلزمه ذلك من تغييرات كبرى في برامج التعليم والبحوث والإعداد المهني والتعليم المستمر لكي تتناغم مع تطورات النشاطات الاقتصادية المتسارعة.
وهي تنمية تعطي أولوية قصوى لتلبية الحاجات الإنسانية الأساسية لكل أفراد المجتمع من طعام ومسكن وملبس وعمل ورعاية صحية وتعليم للجميع وأمن ووسائل نقل وخدمات ثقافية، ولا تنتقل إلى تلبية الرغبات الكمالية والترفيهية، التي تطلبها أقلية من المجتمع، إلاّ بعد أن توفّر كل تلك الحاجات الأساسية.
من هنا طرح برنامج الأمم المتحدة الإنمائي شعاراً للتنمية مفاده، أنها «تنمية الناس من أجل الناس وبواسطة الناس».
مثل هكذا تنمية إنسانية أخلاقية متوازنة تتطلب تخلص الإنسان العربي من ثقافة الخوف من حرية الفكر والسلوك المنضبط، وضرورة التقدم إلى الأمام المطلوبة للتعامل مع مرتكزات العصرنة والحداثة بعقلانية واستقلالية وشجاعة.
وأخيراً، الابتعاد عن الاعتقاد الخائف بأن تؤدي الاستقلالية التنموية العربية إلى عزلة أو قطيعة مع العالم الأجنبي الخارجي، وإلى الانكفاء على الذات. فهذا أولاً غير ممكن في عصر الترابط العولمي الحالي، وثانياً سيضّر بالاقتصاد العربي نفسه.
فالمقصود بالاستقلالية هو عدم الخضوع للإرادات الخارجية والاعتماد على حرية وممارسة الإرادة الوطنية والقومية. فالإرادات والإملاءات الخارجية لا تهدف إلا إلى توسيع مكتسباتها هي في الدرجة الأولى. إن بلاداً عانت الأمرّين عبر العقود الطويلة من ويلات الاستعمار تحتاج أن تكون شديدة الحساسية تجاه الخضوع لإرادات الخارج، حكومية كانت أو خاصة.
[email protected]
0 تعليق