ما هو العنصر الضروريّ الذي لم تضعه أنظمة التعليم العربية على رأس جدول تكوين العقل العربي في المناهج؟ صِحتُ بالقلم: ويحك، أمثل هذا المحور يُضغط في عمود، أم ترجو أن «يلج الجمل في سمّ الخياط»؟ لكن، لا عليك، فالتحدّي يوجب الاستجابة.
إذا أردنا تناول هذا الموضوع بشفافية، من دون حساسية، كان علينا التحلّي بالإنصاف، وإدراك أن المدارس العربية، على مرّ القرون، كانت دائماً تعليمية، تصبّ المعلومات في وعاء المخ، وتمتحنه باستظهارها كما هي نصّاً. أمّا التربية فلا شيء يدلّ على وجودها. هي مثل الإتْباع في اللغة: كلمة على وزن سابقتها وقافيتها، وكثيراً ما تكون بلا معنى، مثل: خبز مبز، شحيح نحيح...
لهذه الإشكالية سلبيات بسيطة من قبيل عدم تقبّل الرأي الآخر. وتتفاقم المساوئ عند انعدام تربية العقل الناقد التجريبيّ، هنا بداية المآسي التي تطال كل مجالات الحياة العامّة، جرّاء غياب البحث العلمي والتحقيق واستشراف المستقبل. تلك قمّة جبل الجليد. أنت حرّ إذا شطح بك الخيال وشط، فلاحت لك سفينة «تيتانيك»، لا قدّر الله. كل شيء محتمل عند غياب العقول الاستشرافية.
أين تكمن المعضلة المزمنة، في المناهج؟ التراكمات قرونيّة، تتلخص في عدم وضع التربية التجريدية في صدارة الأولويات. بعبارة أوضح: الدماغ الذي لا يؤهل للتعامل مع المجرّدات، لا يستطيع أن يتألق فيها موهبةً ونبوغاً. هذه القضية تناولها القلم بطرائق شتى عبر السنين. كيف استطاع الفلاسفة اليونانيون، ما قبل السقراطيين، وصولاً إلى ما بعد أفلاطون، الجمع بين الرياضيات والفلسفة والموسيقى، في حزمة مجرّدات واحدة؟
نحن في القرن الحادي والعشرين، أليس مهمّاً السؤال: ما الذي حال دون ظهور فلاسفة عرب، منذ ابن رشد؟ في جل البلدان العربية تُدرّس الفلسفة، في الجامعات، بل من الثانوية. ألا يطرح ذلك أسئلة مشروعة: لماذا ظهر في أوروبا فلاسفة في كل مجالات السياسة والاقتصاد والعلوم والفنون..؟ وهم فاعلون في ميادينهم.
لماذا عجزت الموسيقى العربية عن الارتقاء إلى استقلالها عن الكلام؟ حين نحلل الموسيقى بمفاهيم سياسيّة، نراها ممنوعة من التعبير عن نفسها بلغتها هي. لهذا يتولى الحديث عنها أبوفراس، ابن زيدون، شوقي أو بيرم التونسي. مجموع مؤلفات الموسيقى المستقلة لدى العرب جميعاً، لا يساوي حتى واحداً من المليون عالمياً، لأن الدماغ الإبداعي لم يؤهلوه للتعبير بالمجرّدات.
لزوم ما يلزم: النتيجة الإدراكية: تأمّل كيف أن غياب الرياضيات وفلسفة العلوم والبحث العلمي، يصيب إنتاج العلوم في الصميم. وهذا انهيار لمناعة السياسة والاقتصاد، وخطر وجودي.
[email protected]
0 تعليق