بين الأنثروبولوجيا والشعبوية - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

ليس من ميدانٍ علميّ، من علوم المجتمع والإنسان، أعاد الاعتبار إلى الثّقافة الشّعبيّة ورفع عنها الحجْب والتّهميش كما فعل ميدان الأنثروپولوجيا الثّقافيّة. لقد فتح أمام دراسات هذه الظّاهرة الثّقافيّة آفاقاً لم تكن مطروقةً من قبل، بل لم تكن معلومة في ميادين التّاريخ الثّقافيّ والنّقد الأدبيّ وسواهما، وأضاء مساحاتٍ من الأهميّة والخصوبة في هذه الثّقافة كانت معتِمة ومجهولة تماماً، مثلما سدّد ضربة نقديّة لكلّ نظرةٍ دونيّة واحتقاريّة إلى ثقافة الشّعب من طريق إعادة بناء معنى جديدٍ لمفهوم الثقافة بما هي فاعليّة إنسانيّة تعبيريّة، أي معبِّرة عن الذّات بالمُتاح من الأدوات التّعبيريّة: اللّغويّة والحركيّة والصّوتيّة والتّصويريّة... إلخ.
كسرتِ المقاربةُ الأنثروپولوجيّة للثّقافة القاعدةَ المعياريّة التي كانت معتَمدة في ميادين دراسيّة أخرى مهتمّة بالثّقافة، والتي مقتضاها (أي القاعدة المعياريّة) عالِميّة الثّقافة، أي حسبان الثّقافة هي، بالتّعريف، الثّقافة العالِمة: ثقافة النّخبة، الأمر الذي يترتّب عليه إخراج الإنتاج الثّقافيّ الشّعبيّ من دائرة الثّقافة، بالكليّة، وحسبانه - في أفضل الأحوال - فولكلوراً للفرجة!
انتقدت الأنثروپولوجيا القاعدةَ تلك، لأنّها تتوسّل معياراً ولا تتناول واقعاً موضوعيّاً. فأمّا المعيار فيقع خارج الثّقافة الشّعبيّة (أي يقع في الثّقافة العالِمة)، وهي لا يمكنها أن تعتمده أو تصير على منواله، ليس عجزاً منها عن ذلك أو لقصورٍ فيها يمنعها، بل لأنّها من مَحْتِدٍ مختلف ولأنّها إنْ حاكتِ الثّقافةَ العالمة فستفقد شخصيّتها وخصوصيّتها ولن تعود، حينها، ثقافةً شعبيّة.
وأمّا الواقع (الذي لا تتناوله القاعدة المعياريّة) فواقعُ الثّقافة الشّعبيّة كما هو، أي من حيث هو يُفْصِح عن نفسه بأدواته الخاصّة وطريقته الخاصّة. وما أغنانا عن القول إنّ هذه طريقة الأنثروپولوجيا في مقاربة موضوعاتها، إذْ هي، في الأغلب، لا تلتفت إلى ما هو معياريّ أو نموذجيّ، أكان ذلك في الظّواهر أو في الأفكار، وإنّما هي تنصرف إلى ما هو واقعيّ قائم في الواقع الاجتماعيّ والإنسانيّ.
على أنّ أهمّ ما ساهمت به الأنثروپولوجيا في مسألة الثّقافة - وهو أيضاً ما كان في أساس نقدها لمنظور المفاضلة المعياريّ بين أنماط الثّقافة - هو توْسعتُها معنى الثّقافة بحيث شمل كل صور التّعبير عن التّجربة الحياتيّة الإنسانيّة: الواعي منها وغير الموعَى به، المعقول والمتخيّل والمحدوس والافتراضيّ، المكتوب والمسموع والمرئيّ، الصّوتيّ والحركيّ والتّصويريّ، الموروث والمستحدث... إلخ. هكذا بات كلّ أثرٍ إنسانيّ في عداد الثّقافة: التّصوّرات الذّهنيّة، الخرافات، الأساطير، القيم، العوائد، الطّقوس، اللّباس، الطّبخ، الغناء، الرّقص، النّقش... إلخ. أمّا ما يجمع بين هذه - على اختلافها - فكونها تمثّل كيفيّات متنوّعة للتّعبير عن الذّات: الذّات الفرديّة والذّات الجماعيّة.
هكذا أحكمتِ الأنثروپولوجيا الرّبط بين الثّقافة والذّات، حيث كلُّ ما تعبّر به الذّات عن نفسها يصير في عداد الثّقافة. ولذلك، يصبح في مُكْنِ النّاس جميعاً أن يُنْتجوا أثراً ثقافيّاً مّا من غير أن يكون لديهم تكوينٌ فكريّ أو أدبيّ أو فنّيّ، بالمعنى المدرسيّ المتعارف عليه، بل حتّى من دون أن يكونوا قد ولجوا مؤسّساتِ تكوين. على أنّ المأثرة الكبرى للأنثروپولوجيا الثّقافيّة تكمن في ما أتاحتْه من إمكانيّات معرفيّة جديدة لفهم مجتمعاتٍ وحضارات من طريق تحليل ثقافاتها واشتقاق رؤى عن أنماط التّفكير والتّعبير فيها. لذلك كانتِ الثّقافات، في منظور الأنثروپولوجيا، هي المفاتيح التي تُفْتَح بها أقفالُ المجتمعات الإنسانيّة، ويُدْخَل إلى عوالمها الرّحبة، ويُلْقَى الضّوءُ على مخبوءاتها...
على أنّه ينبغي أن نتحاشى، في هذا المضمار، الوقوع في مطبّ الاحتفاليّة الزّائدة، والزّائفة، بالثّقافة الشّعبيّة على نحو ما يذهب إلى ذلك كثرةٌ كاثرة من الدّارسين الأنثروپولوجيّين. نعم، للأنثروپولوجيا الثّقافيّة مزاياها المنهجيّة والمعرفيّة التي لا تُجْحَد، لكنّها تظلّ مجرّد إمكانيّة لمقاربة الظّاهرة الثّقافيّة في جملة إمكانيّاتٍ معرفيّة أخرى لها، من جهتها، مزاياها التي لا تُحْصَى.
إذا كانت مأثرتُها الكبرى في أنّها نفضت غبار الإهمال والتّجاهُل عن ثقافةٍ شعبيّة وقَع مَحْوُها بمقتضى نظرةٍ تفاضليّة استعلائيّة، تَحُطّ من قدْرِ المنتوج غيرِ العالِم وغيرِ النّخبويّ، فإنّ من الممجوج أن تقع هي نفسُها في المحذور عينِه فتنساق وراء نظرةٍ تفاضليّة إلى الثّقافة، ولو من باب تبجيل الثّقافة الشّعبيّة وتعْلية مكانتها إلى الحدّ الأبعد. إنّ في ذلك قدْراً من النّزعة المعياريّة، التي تحاول الأنثروپولوجيا الثّقافيّة، تحاشي الانزلاق إليها، بل قد يكون في تلك التّبجيليّة شيءٌ من النَّفس الشّعبويّ في التّفكير مُطِلٌّ من وراء مفهوم الثّقافة الشّعبيّة!

[email protected]

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق