مع التعدّد الذي عرفته العلوم الإنسانية، بات من المتعذّر الركون إلى معنى واحد لمفهوم الصراع، وإذا كان المفهوم، مطلق مفهوم، هو حدّ، فإن الصراع هو حدّ على حالة أخرى، يمكن تشكيلها من مروحة واسعة، وأحياناً متناقضة، مثل السلام، والاستقرار، والازدهار، والرفاه، أو حتى السكونية التاريخية، والاستنقاع، وغياب الديناميات المحركة للطموحات بالنسبة للمجتمعات، ولهذا يصعب النظر إلى مضمون الصراع وأدواته وأهدافه ومآلاته خارج نطاق القيمة المعيارية، التي تتجاوز الجانب التوصيفي.
قد تكون واحدة من مزايا التحليل الماركسي، تلك المتعلقة بمنح الفكر، أي التحليل الواعي للظاهرة التاريخية، قيمة مضافة، فهو بعرف هذا التحليل، ليس فقط محاولة لتفسير الواقع، بل له دور في تغيير التاريخ نفسه، وكان لهذه الإضافة التي قدّمها الفيلسوف كارل ماركس، دور مؤثر على مجمل العلوم الاجتماعية، في الربط بين الوعي والواقع، وهو ربط أخذ عدداً من الاتجاهات الأساسية، خصوصاً في تحليل التاريخ من جانب معياري، يطابق بين حركة التاريخ ومعايير محدّدة للتقدّم.
التاريخ الحديث نفسه، الذي بدأ مع الثورة الصناعية الأولى في القرن الثامن عشر، هو تاريخ الصراع بين بُنى جديدة وبُنى تاريخية قديمة، ليس فقط في مجال التحوّل من عصر الإقطاع إلى عصر الرأسمال، بل في مجال توليد قيم ومعايير جديدة، في مجالات السياسة والاجتماع والحقوق والثقافة، وبهذا المعنى، فإن عملية إحداث قطيعة تاريخية بين زمنين تاريخيين كبيرين، الزمن الإقطاعي والزمن الرأسمالي، كانت وليدة صراع، من دونه لم يكن بالإمكان ولادة عصرنا الحديث، الذي دخل منذ ثلاثة عقود الثورة الصناعية الرابعة، ثورة التقانة والاتصالات.
لكن التطوّر التاريخي الحديث، لم يكن دائماً باتجاه تقدّمي صاعد، وشهد انتكاسات عديدة، أبرزها ربما الحربان العالميتان، اللتان أزهقتا أرواح عشرات الملايين من البشر، ودمرتا دولاً وعواصم ومدناً في قلب القارة الأوروبية وخارجها، كما أن هذا التطور أوجد معه مشكلاته، فقد ولّدت ديناميات الرأسمالية ميلاً للتوسّع الإمبريالي للدول الصناعية، وموجة كبيرة من الاستعمار، كان للشرق الأوسط، وضمناً العالم العربي، حصة كبيرة منه.
خاضت شعوب منطقتنا نضالات من أجل الاستقلال، ساعدتها في إعادة تعريف ذاتها وطنياً، خصوصاً أن معظمها كان جزءاً من السلطنة العثمانية لقرون، ومن الطبيعي، في هذا السياق التاريخي، أن تكون الدول الوطنية العربية الناشئة بعد الاستقلال تحوّلاً نوعياً، ومقدّمة للتنمية والازدهار، لكن من الناحية الواقعية، أصبحت الدول الوطنية نفسها مجالاً للصراع بين قوى واتجاهات داخلية تتصارع فيما بينها على السلطة من جهة، وبين قوى إقليمية ودولية ساعية لزيادة هيمنتها ونفوذها من جهة ثانية، خصوصاً دول المشرق العربي.
بعد أكثر من قرن على انهيار السلطنة العثمانية، وأكثر من سبعة عقود على الاستقلالات، انهارت عدد من الدول الوطنية في الشرق الأوسط، وتحوّلت من جديد إلى مسرح لصراعات، الفاعل الأقوى فيها هو الفاعل الخارجي، بل إن بعضها يشهد عدداً من الاحتلالات والتدخّلات العسكرية الصريحة، مع تقاسم نفوذ بين القوى المحلية.
ما هو لافت في الصراعات والحروب الأهلية المستعرة في هذه الدول، أن مختلف الأطراف المتحاربة لديها سردية تقدّمية عن الصراع وعن ذاتها، وسنجد أنها تمتلك قاموساً يكاد يكون متطابقاً من حيث المصطلحات «التقدّمية»، مثل الحرية والتحرير والأمان وصون الكرامة والوطنية، في الوقت الذي تحتكم فيه إلى كلّ أصناف الأسلحة، وتمارس الممارسات القمعية ذاتها، وتمنع الرأي الآخر، وتعتقل من يخالفها سياسياً، ويضاف إلى ذلك عند القوى ذات الطابع الديني الراديكالي الهيمنة الذكورية على الحياة العامة، فضلاً عن الاستعانة بقوى خارجية.
إذا كان العالم الحديث قد تأسس بالدرجة الأولى على الصناعة والعلم والتكنولوجيا والمعرفة والبحث، فإن الشرق الأوسط يكاد يكون مساهماً ضعيفاً، ولا يزال بمجمله يقوم على اقتصاد هجين وريعي، فكيف الحال إذن في دول تخوض حروباً أهلية، يغيب فيها الإنتاج، ولا تكاد تتوقف فيها المعارك لتبدأ من جديد، وقد التهمت بناها التحتية ومعظم مقدراتها المادية، وأتت على عمرانها، وقتلت وهجّرت الكثير من سكانها، وأوصلت من تبقى منهم إلى خطّ الفقر وما دونه، حتى باتت تعيش على ما تقدّمه المؤسسات الأممية والإنسانية من سلال غذائية.
إن ما ينبغي الوقوف عنده ونقده بشدة هو ربط هذه الصراعات بأي معنى للتقدّم، وإسقاط ادعاءاتها بمعاني الحرية والتحرّر والتحرير، ووضعها في خانة العبث والانتكاس التاريخيين، وما تدفعه الشعوب اليوم من أثمان مؤلمة تحت رايات عديدة، لا علاقة له لا من قريب أو بعيد ببناء مستقبل أفضل، وهو في كثير منه إعادة إنتاج للاستعمار بأدوات محلية، تستجدي موقعاً لها ولو كان فوق تلال من الجماجم.
إن بقاء الشرق الأوسط يراوح في مكانه، عبر جولات من الصراع، يعني عملياً استنزاف الجميع للجميع، على تضاد مع أي معنى تقدّمي للسياسة والوعي والتاريخ. وفي حالة استنزاف للثروات المادية والبشرية، وتغييب أي معنى لحضوره الإنساني.
0 تعليق