كم يستصغر البعض الأمّيّة، يحصرها في عدم القدرة على القراءة والكتابة؟ تفكير عجيب، فهل لدى العرب من هو أروع علماً باللغة وأساليبها من أبي العلاء، الذي لم يقرأ ولم يكتب؟ حتى منظمة اليونيسكو تبدو ساذجة في تعريفها للآفة. هي تقصُر المسألة على العجز عن كتابة عشرة أسطر، وعن قراءة عشرة سطور وفهمها. الطريف أن أبا حيّان التوحيدي تحدّى أيّاً كان أن يكتب عشرة أسطر ليس فيها خطأ لغوي، أو خلل في التركيب، أو خطل في المعنى، أو خلط في سياق الأفكار. التحدّي ليس هيّناً، فهو يجعل كل كاتب، مهما يكن اعتداده بقلمه، «يحاسس على بطحته». ألف سنة من الحرب النفسية شنّها التوحيدي على الأقلام.
لكن القضية أبعد مدىً من الأمّية ومحوها، أو الحفاظ عليها بإصرار مثلما فعلت أمّة «اقرأ». أهون أنواع الأمّية هو ذلك الذي ينحصر في تعذّر القراءة والكتابة. الأمر يسير، فبقوة الإرادة وحسن الإدارة، يمكن أن تُحلّ المشكلة في زمن صبحه قريب. بسهولة تستطيع البلدان المغلولة بالأمّية، في سنوات معدودات، أن ترى الأميين بأيديهم الصحف أو أمامهم شاشات الحواسيب يُغوغلون بغوغل، ويُفَسبكون بالفيسبوك، ويُتكتكون بالتيك توك، ويُوَتسبون بالواتساب. إلا أن ما يعسر هضمه على العقل والضمير والإحساس بالمسؤولية، هو: كيف ترضى الدول في القرن الحادي والعشرين برؤية ضحايا الأمّية في جماهير شعوبها؟
الأمية الموسيقية هي الأخرى ليست صندوق شرور، ففي سنة واحدة، يستطيع حتى غير الموهوب أن يقرأ التدوين الموسيقي ويُلمّ بالنظرية ويتعلم المقامات الغربية والشرقية. أمّا الأمّيات التي تقصم ظهور البلدان، فهي تلك التي يحار العقل في فهم كنهها، لأنها تلوح مندسّةً في المورّثات. كأنها أقفال على البصيرة والإرادة والطموح والوعي، ولا داعي إلى الأخلاقيّات كالضمير والأمانة.
هنا يكون السؤال: ما الذي يمنع بعض الدول من محو الأمّية، فتمسي الآفة مركّبة؟ الخطوة التالية: ما الذي يحول دون اكتشاف تلك البلدان أمّيتها التنموية؟ كيف نفسّر أن النموذج السائد في جلّ العالم العربي هو حزمة مقيتة من الأميّات: أميّة سياسية وجغراسيّة وجغراستراتيجية، أميّة اقتصادية، أميّة صناعية وزراعية، أميّة صحية وبُنى تحتية، أميّة علميّة وتقانية، أميّة تربوية تعليمية للعجز عن التطوير، أميّة حريات فكرية رأييّة تعبيرية، أمّية دفاعية أمنية، ثم ضع الكل في كيس أمّية زمانية عصرية؟
لزوم ما يلزم: النتيجة الاستنباطية: عدم محو تلك الأمّيات، يؤدي، لا قدّر الله، إلى محو الخرائط.
0 تعليق