الفكر.. قوة تاريخية - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

د. يوسف مكي

يتساءل بعض الأصدقاء عن مصير العروبة المعاصرة، والفكر القومي، بعد انتهاء حقبة الأنظمة السياسية التي حكمت باسمها، والقول رغم ما يبدو عليه من وجاهة ومشروعية، غير دقيق. فقد بدأ نشوء القومية العربية، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وعبّرت عن حضورها حركة اليقظة العربية، التي نشأت لمقارعة الاستبداد العثماني، وكانت بلاد الشام منطلقاً لها.
تجلى هدف الحركة القومية الأول، بالجانب السياسي، في المطالبة بالاستقلال عن السلطنة العثمانية، وتحقيق الوحدة العربية ولم تشمل مطالبها أية مضامين اجتماعية، وعلى هذا الطريق تقدمت قوافل الشهداء، وكان الأبرز بين تلك القوافل، مجزرة، أيار/ مايو 1916 على يد جمال باشا. وتطورت حركة القومية العربية، بعد هزيمة الأتراك، وانتصار الحلفاء، وانفضاح أمر اتفاقية سايكس- بيكو، وإعلان وعد بلفور، فتبنّت مبادئ أكثر وضوحاً وعقائدية.
تزامن مع انطلاق اليقظة العربية، بروز حركة أدبية وفكرية واسعة، ونهضة صحفية بالمشرق العربي، ودعوات فكرية واجتماعية للتجديد ومناهضة الاستبداد، كان من روادها جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، نادوا بتحرير العقل من الأوهام والخرافات، وإزالة الفروق بين المذاهب الإسلامية.
وتعززت فكرة الوطنية مع الشيخ رفاعة الطهطاوي، الذي عرفت عنه مقولته الشهيرة: «ليكن الوطن مكان سعادتنا العامة التي نبنيها من خلال الحرية والفكر والمصنع». وجاء عبد الرحمن الكواكبي، ليشاطره أفكاره، حاملاً على الفكر المطلق والجهل ومطالباً بالحرية السياسية. والواقع أن الكواكبي، هو من أوائل الذين تحدثوا عن أمة عربية، وتطلعوا إلى تحقيق وحدتها.
منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، برز مفكرون نظّروا لفكرة الوحدة، لعل الأشهر في كتاباته بينهم، ساطع الحصري، وجورج انطونيوس، ولاحقاً بعد نكبة فلسطين، صلاح البيطار وقسطنطين زريق وعصمت سيف الدولة وميشيل عفلق، ومنيف الرزاز، وقد أثروا جميعاً المكتبة العربية، بإنتاجهم.
ومنذ منتصف الثلاثينات من القرن المنصرم، بدأت إرهاصات مبادئ العدالة الاجتماعية، تتسلل بين النخب العربية، متأثرة بالثورة الفرنسية، وثورة أكتوبر في الاتحاد السوفييتي، مهيئة لبروز حركات سياسية، أخذت مكانها في بلاد الشام والعراق، وكان عليها أن تواجه استعمارين تقليديين فتيّين، هما الاستعمار البريطاني، الذي فرض الوصاية على الأردن والعراق، والانتداب على فلسطين، والفرنسي الذي هيمن على سوريا ولبنان.
والمعضلة الأولى، التي واجهها المشرق العربي، ضد الاحتلال الغربي، أنه واجه العثمانيين من قبل بأرضية مشتركة وسقف واحد، لكن الأرضية والسقف لم يعودا موجودين، في المعارك ضد الاستعمار الغربي. والنتيجة أن معركة الاستقلال، أفرزت دولاً عربية مشرقية، وأنظمة سياسية مختلفة.
في الخمسينيات من القرن الماضي، قاد نخبة من الضباط المصريين، ثورة 23 تموز/ يوليو عام 1952، بقيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ورفعت شعار مكافحة الفساد، وبناء الدولة العصرية، وتبنّت مشروع إصلاح زراعي واسع، وكسرت احتكار السلاح، وأممت قناة السويس من البريطانيين، وبنت السد العالي، كما واجهت بقوة مشروع الرئيس الأمريكي، دوايت أيزنهاور، وحلف بغداد، الذي رعته بريطانيا، وضم كلاً من باكستان وتركيا والعراق، وجرت محاولات لضم سوريا للحلف، انتهت بالفشل الذريع تبعها حقبة نهوض قومي عارم، على مستوى الوطن العربي بأسره، هيأت لاستقلال الجزائر، التي قدمت في سبيله أكثر من مليون شهيد، ومعه اكتمل استقلال بلدان المغرب العربي من الاستعمار الفرنسي
والخلاصة، أن حركة القومية العربية، لم تكن مصنّعة من قبل أي نظام رسمي عربي، بل كانت استجابة تاريخية لواقع موضوعي، عبَّر عن نفسه في رفض السياسات الاستعمارية بالمنطقة، وكان سبباً في بروز حراك جماهيري واسع، على مستوى الأمة.
والفكر في كل الأحوال قوة تاريخية ينبغي أن لا يستهان بها. وبخلاف الحركات القومية الأوروبية، التي نشأت في السوق ولكسر الاحتكارات الجمركية، نشأت حركة العربية، لتناضل ضد السوق، رافضة احتكار الغرب، للسوق وتدمير الموانئ العربية، في بيروت والإسكندرية واللاذقية.
صحيح أن أنظمة عربية، في مصر وسوريا والعراق، تبنّت التوجه القومي، لكنها عجزت جميعاً عن التماهي مع الشعارات التي طرحتها، وأسهمت في التجريف السياسي، ووأد حركة النهوض القومي، وتراجع دور الحركة الشعبية. والأسف هو طغيان الطابع الأمني على تلك الأنظمة، وفي ظل هذا الواقع تغوّل الفساد والرشوة، إلى بعض تلك الأنظمة، وحدث انفصام مروّع بين الشعارات التي تطرحها وبين ممارساتها.
ولاشك أن نجاح حركة الانفصال، في سوريا، في أيلول/ سبتمبر 1961 ونكسة الخامس من حزيران/ يونيو 1967، وهزيمة المقاومة الفلسطينية بالأردن في أيلول الأسود عام 1970 قد ألحقت ضرراً بالغاً في مسار الحركة القومية، لكن ذلك ليس نهاية الوجود العربي، فأمم أوروبا حاربت بعضها بعضاً، وخسرت البشرية في الحرب العالمية الثانية، قرابة مئة مليون من البشر، لكن ذلك شكل تحدياً لبناء أكبر، جعل من الدول التي انتصرت في تلك الحرب مركزاً للكون.
والخلاصة أن انتهاء صلاحية بعض الأنظمة التي طرحت شعارات القومية، ربما يسهم، إذا سلمنا بقانون الدورة التاريخية، في إعادة الحياة للقومية العربية، كحركة تعبوية تناضل من أجل تحقيق الوحدة والتنمية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
الأفكار تتراجع بفعل الممارسات الكارثية، ولكنها لا تموت، وهي في كل الأحوال.. الفكر قوة تاريخية.

[email protected]

أخبار ذات صلة

0 تعليق