الشارقة: علاء الدين محمود
الناشر: دار روايات
لا تكتفي الكثير من الأعمال السردية في مجالات الرواية والقصة، بأن تكون فقط شاهدة على العصر؛ أي لا تمارس فعل التأريخ، لكنها أيضاً تعمل على رصد التحولات العميقة في البنى الاجتماعية، وما يطرأ من تغيرات على أنماط الحياة والقيم الجديدة التي يكتسبها الناس.
رواية «راكتايم»، للكاتب الأمريكي إي إل دوكتورو، التي صدرت في نسختها العربية عن دار روايات في طبعتها الأولى عام 2019، بترجمة: علي المجنوني، تعد من الجواهر السردية، ليس في الولايات المتحدة الأمريكية فقط، بل وفي تاريخ الأدب العالمي، وذلك للموضوع الذي تناولته، وكذلك للأدوات والأساليب والتقنيات السردية التي وظفها الكاتب، والرواية تعمل بصورة عميقة على تحليل الوضع في أعقاب تحولات كبيرة في الحياة الأمريكية في القرن العشرين، ويركز العمل على تلك المتغيرات التي صنعت صورة جديدة لأمريكا، تغيرت معها الكثير من أنماط الحياة.
فور نشرها عام 1975، أسهمت هذه التحفة الأدبية في تغيير الفهم الذي على أساسه تُكتب الروايات وما الذي يمكن أن تكشف عنه، حيث تنطلق من نسيج سرديّ متماسك فيه من التجريب قدر ما فيه من الأصالة، و قدّمت صورةً عن الروح الأمريكية في فترة الدخول إلى القرن العشرين والحرب العالمية الأولى.
*واقع وخيال
تطل الرواية على عام 1906 في نيويورك، وتنفتح على منزل أسرة أمريكية ثرية خلال ظهيرة يوم أحد كسول، حيث يطرق بابها الفنّان الشّهير هاري هوديني على إثر تعطّل سيارته على الشارع قبالة منزل تلك الأسرة، ومن هذه اللحظة تبدأ تفاصيل العمل الآسر، حيث ينسج المؤلف خيوطه من تفاصيل واقعية وخيالية، ويكتب عن شخصيات واقعية في حياة هذه الأسرة المتخيّلة كاشفاً عن الصّراعات التي توجّه حيوات الناس في ذاك الزمن. وفي مسرح أحداث الرواية يتحرك فرويد عالم النفس الشهير، وأسطورة الجمال الفنانة إيفلين نسبيت، وقائد الثورة المكسيكيّة زاباتا، والمخترع هنري فورد، والفيلسوفة الروسية إيما جولدمان، ورجل الأعمال جي بي مورغان، وغيرهم، راسماً لشخصياته المتخيلة الكثير من الدروب، وبطريقة سحرية يختفي الخط الفاصل بين الخيال والحقيقة التاريخية، بين الشخصيات الواقعية والمتخيلة بمن في هذه الشخصيات بائع مهاجر ومتجول وموسيقي «راكتايم» من حي هارلم، والذي كان يدفعه الإصرار على تحقيق العدالة والثورة.
*حقبة
تتناول الرواية بشكل أساسي المجتمع الأمريكي خلال القرن العشرين، حيث التحولات الكبيرة، وذلك من خلال مسيرة تلك الأسرة الثرية التي تعمل في مجال تصنيع الأعلام والألعاب النارية، وهي مصدر سهل للثروة، حيث كان الجميع في ذلك الوقت في تنافس محموم من أجل جمع الثروات، إذ تعمقت المفاهيم والثقافة الرأسمالية، ويكون المنعطف الكبير في حياة تلك الأسرة في لحظة انطلاق الأب في رحلة استكشافية إلى القطب الشمالي، وعودته تشهد تغيراً في علاقته بزوجته، ومن الشخصيات المحورية في الرواية الأخ الأصغر للزوجة، وهو شاب عبقري في صناعة الألعاب النارية، لكنه شخصية غير سعيدة تسعى وراء الحب والإثارة ويصبح مهووساً بالشخصية الاجتماعية سيئة السمعة إيفلين نسبيت، ويطاردها عبر المدينة ويشرع في النهاية في علاقة غرامية قصيرة وغير مرضية معها، ما يجعله أكثر عزلة، بالتالي تضعنا الرواية أمام مشهد أسرة ذاقت نعيم الثروة لكنها مع ذلك تعيش حياة مفككة، لا سعادة فيها، ويتابع السرد مصائر أفرادها.
*مشاهد وصور
وتعكس الرواية تلك الحياة المجنونة في أمريكا خلال فترة بداية القرن العشرين، حيث الحفلات الفخمة إلى حد الجنون، وبزخ الأثرياء، والرحلات التي تقيمها البرجوازية الميسورة، ونزهة الشوارع بالسيارات، وكذلك تطل بصورة أكثر خصوصية على حياة الفقراء، فالرواية تتناول ذلك التباين الطبقي الحاد، حيث لا يعرف أعضاء كل طبقة شيئاً تقريباً عن أفراد الطبقة الأخرى، لكن كل منهم يحتفل بحرياته المتميزة بأقصى ما يستطيع، تلك كانت هي الطريقة الأمريكية في الحياة الحديثة، لكنها كانت عالماً بلا قلب، ولا معنى، حيث لم تنتف العنصرية بعد، وإلى جانب الثراء كان هناك الفقر وحياة البؤس وعمالة الأطفال، والأجور الضعيفة، والرواية ترسم صورة كذلك لأثر المهاجرين القادمين الذين جلبوا معهم الأفكار الاشتراكية والفوضوية، وحضر في ذلك المشهد الفن بقوة، حيث كانت مسرحيات النرويجي هنريك إبسن تستخدم كقوة تحريضية للجماهير.
*منعطف
السرد في الرواية يعبر عن ذلك المنعطف الكبير الذي كانت تتجه نحوه الولايات المتحدة في ذلك الوقت، حيث كان التسابق في كل شيء هو سيد الموقف، ويحمل العمل أحلام المهاجرين والبسطاء والزنوج وسط تلك العاصفة الكبيرة من التسابق نحو الثروات والسعي إلى المكانة الاجتماعية، واتخذ التصنيع اتجاهاً غير متوقع، من بناء تكتلات الشركات العملاقة التي يسيطر عليها بضع مئات من الممولين، وهي التي تسير الحياة كما تريد، وتلك هي العوالم التي عبرت عنها الرواية بعمق شديد مع التحليل اللازم لكل تلك الاتجاهات من خلال شخصيات ترمز كل واحدة منها لحلم وطبقة معينة، فالأدوار هي التي تقوم بالبطولة في هذا العمل أكثر من الشخصيات نفسها.
*عنوان
يكتسب عنوان الرواية أهمية خاصة، فهو يحمل دلالة على حجم المتغيرات، فالراكتايم، هي شكل موسيقي جديد باستخدام آلة البيانو، وتوصف بكونها موسيقى خشنة، تقوم كلمات أغانيها على نمط شعري نثري بروح شعبية، فروح تلك الموسيقى أعلنت عصراً جديداً في أمريكا بواسطة المهاجرين وسكان الشوارع وسكان الضواحي الجدد، و استحوذت تلك الموسيقى على أمريكا بأكملها بين عامي 1903 و1915، تلك الحقبة المعروفة ببزوغ فجر القرن العشرين.
*أساليب
قدم الكاتب رؤية جمالية مختلفة في هذا العمل من خلال استخدام العديد من التقنيات السردية، وبرع في جعل الرواية مشابهة لروح ذلك العصر، حيث وتيرة السرد التي لا تتباطأ أبداً، فهو يتحرك بلا هوادة من مكان إلى آخر، ومن شخص إلى ثان، ومن صورة إلى مشهد، مع قوة الوصف والاهتمام بالتفاصيل المتناهية في الصغر، وكذلك عمل الكاتب على توظيف الكوميديا والسخرية والهجاء اللاذع من أجل تفسير رؤيته وتمرير العوالم الكئيبة والثقيلة، وتبدو الرواية غير تقليدية وغير عادية نسبة للطريقة التي يتم بها نسج الشخصيات التاريخية والشخصيات الخيالية في السرد، ويتم الربط بين الأحداث المختلفة بشكل مبتكر، ووسط كل تلك العوالم السردية ينجح المؤلف في تمرير أفكاره وموقفه من تلك الحياة التي سادت في ذلك الوقت بسلاسة شديدة.
*صدى
وجد العمل صدى كبيراً منذ تاريخ نشر الرواية في عام 1975، وتم تصنيفها في عام 1998، ضمن أفضل مئة رواية أمريكية، وفازت بجائزة دائرة نقاد الكتاب الوطنية للرواية عام 1975، وجائزة الأكاديمية ومعهد الفنون والآداب الأمريكية عام 1976، وتسابق النقاد والصحف في تناولها والحديث عنها، حيث وصف الكاتب بأنه «سيد في أساليب السرد» وأنه «يرهف حسه للتاريخ ويعرف كيف يمس حياة الناس العاديين».
*اقتباسات
«كان العالم يتشكل ويعيد تشكيل نفسه في عملية لا نهاية لها من عدم الرضا».
«الصداقة هي ما يدوم من المثل المشتركة».
«جمالك ليس أكثر من جمال الذهب، وهذا يعني أنه زائف وبارد».
«الكتابة كقيادة السيارة ليلاً. لا يمكنك فيها الرؤية إلا بقدر المصابيح الأمامية».
«حياته سخيفة، تقبل فيها جميع أنواع العبودية والهروب».
«كان من ضمن مسؤولياته، الحفاظ على أوهام الآخرين».
0 تعليق