تذهب التحليلات المتعلقة بالتطورات التي شهدها العالم خلال سنة 2024، إلى أنه قد حدثت تحولات حاسمة، لا سيما في الشرق الأوسط، ستؤثر في التوازنات الجيوسياسية بين القوى الكبرى، ومن المنتظر أن تشهد سنة 2025 - بناء على ذلك- أحداثاً مفصلية ترتبط بعلاقة الغرب مع الشرق وبخاصة بعد تولي دونالد ترامب لمقاليد السلطة، فقد قامت أمريكا بمعية حلفائها الإقليميين بفرض وقائع جديدة من شأنها أن تدفع الصين وروسيا إلى تحريك أحجار الدومينو في مناطق أخرى من العالم من أجل إعادة ترتيب التوازنات من جديد. وتستمد هذه التوقعات جانباً من حججها من فرضيتين رئيسيتين: أولاهما أنه من الصعب على الغرب الذي يمرّ بأزمة اقتصادية غير مسبوقة، أن يوظف فائض قوة جديداً ضد الشرق والجنوب الشامل في اللحظة نفسها، ثانيهما أن الصين لن تبقى مكتوفة الأيدي في مواجهة الحصار الاقتصادي الأمريكي، كما أن موسكو ستعمل على إعادة ترتيب أوراقها وفق مسارات قد لا تكون في صالح أمريكا وأوروبا.
وقد أثبتت الأحداث الأخيرة في المنطقة العربية، أن تدخل روسيا سنة 2015 إلى جانب نظام الأسد لم يُسهم سوى في تأخير سقوط نظام حزب البعث في سوريا، وأن المساعدات الخارجية لا يمكنها أن تساعد على استقرار الجبهة الداخلية للدول إلا بالقدر الذي تستطيع هذه الجبهة أن تساعد نفسها، وأن من لا يُحسن سوْسَ المُلكِ يخلعُه. وعلى الرغم من ذلك، وبصرف النظر عن دور إسرائيل الذي لا يتجاوز في أهميته سقف الصلاحيات الممنوحة لشركات المناولة التي تقدم خدماتها للغرب، فإن الدور التركي الذي اتصف حتى الآن بالازدواجية وباللعب على الحبلين بين الشرق والغرب، استطاع أن يُحقّق حتى الآن، مكاسب آنية لأنقرة، لكنه قد يجعلها تخسر رهانات كبرى على المدى المتوسط تتعلق بمصداقية تحالفاتها وعلاقاتها الثنائية مع الدول.
نلاحظ علاوة على ذلك، أنه وفي سياق هذه التحوّلات الجيوسياسية التي تحبس الأنفاس، تحاول الصين الدفاع عن مصالحها، لأن الصراع بين القوى الكبرى وصل إلى حافة الهاوية وبدأت كل الأطراف وفي طليعتها الغرب تتجاوز كل الخطوط الحمر، ومن ثم فقد قرّرت بكين اعتماد سياسة صناعية متمحورة على استبدال القسم الأكبر من الواردات بهدف تقليص التبعية التي يعرفها الاقتصاد الصيني تجاه سلاسل التوريد الأجنبية، التي ستشهد العديد من الاضطرابات بسبب التطورات الحاصلة في العلاقات الدولية، من خلال دفع الشركات الصينية إلى الحصول على إمكانيات تقنية قادرة على منافسة ما توفّره الشركات الأجنبية. ويشير المراقبون إلى أن المؤسسات الصناعية الصينية تمكّنت، منذ أن فرضت واشنطن عليها حصاراً تكنولوجياً، من استبدال المنتجات الغربية بمنتجات صينية ذات جودة محترمة، باستثناء قطاع أشباه الموصلات الذي يتطلب خبرات تقنية عالية لا تتوفر حتى الآن سوى في تايوان وكوريا الجنوبية واليابان، ومن ثم، فإن واشنطن تسعى هي نفسها، إلى إعادة توطين صناعة أشباه الموصلات في أمريكا بالشراكة مع أكبر الشركات التايوانية.
ويمكن القول إن القسم الأكبر من التحولات الجيوسياسية التي نتحدث عنها على مستوى العلاقات الدولية، تحدث على مستوى المحور الرابط بين أوروبا وآسيا في سياق ما بات يعرف بأوراسيا، وتكمُن ميزة هذا المحور الأوراسي، في أن من يتحكّم فيه يستطيع أن يتحكم في العالم، كما كان يقول مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق بريجينسكي، وعليه فإنه وإضافة إلى الحضور اللافت لأمريكا في أوراسيا من خلال قواعدها العسكرية، نُسجِّل نشاطاً صينياً قوياً في هذه المنطقة من أجل تجسيد مشروع طريق الحرير، بالتحالف مع روسيا التي كانت تسيطر في زمن الاتحاد السوفييتي على مناطق شاسعة من أوراسيا والبحر الأسود، الذي بات يكتسب أهمية جيوسياسية متصاعدة منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا.
وتسعى أنقرة في السياق نفسه من خلال الاعتماد على القوميات التركمانية في وسط آسيا إلى فرض واقع جيوسياسي يخدُم مصلحتها ويسمح لها بمحاصرة النفوذ الأوروبي في المنطقة، المعتمد على تحالف وثيق مع أرمينيا، بيد أن المسعى التركي لا يتوافق بالضرورة مع الأجندة الصينية والروسية، وقد يتعارض في بعض جوانبه مع نفوذ إيران في أوراسيا.
أما بالنسبة لمسار إعادة التموضع العسكري الروسي في العالم بعد سقوط النظام في سوريا، فإن تصريحات بوتين الأخيرة، تشير إلى أن موسكو ما زالت تملك العديد من أوراق القوة لتقايض بها الأتراك على مصالحهم في وسط آسيا والبحر الأسود، ولتشاغب بها أيضاً القوى الغربية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وستبقى العقيدة العسكرية الروسية تعتمد خلال السنوات المقبلة على الترسانة العسكرية البحرية، لاسيما الغواصات المجهّزة بالصواريخ النووية الفرط صوتية، وهي تمتلك بالتالي خيارات أخرى غير تقليدية لإعادة الانتشار العسكري وبخاصة في مواجهة حلفاء واشنطن في شرق آسيا.
ويمكن الاستنتاج عطفاً على ما تقدم، أن كسب معركة لا يعني بالضرورة حسم الحرب، وسيظل الصراع بين واشنطن وحلفائها من جهة، وبين الصين وروسيا وربما الهند، مرتبطاً بالمحور الأوراسي، ويُنتظر أن يؤدي الجنوب الشامل دور بيضة القبان في هذه المواجهة.
0 تعليق