الشارقة: جاكاتي الشيخ
يتميز بعض الخطاطين بقدرتهم على استغلال الخصائص الجمالية للحرف العربي في تقديم أعمال معاصرة، رغم أنهم لا يخرجون على القواعد الأساسية لفن الخط العربي، إلا أنهم ينجحون في الإبداع فيه إلى حدّ بعيد، فيجد المشاهد في أعمالهم ما لا يُبعده عن الخطوط العربية الأصيلة، ويربطه في الآن نفسه بالحداثة الفنية المعاصرة له، ومن أولئك الفنان السوري عبدالإله أبوجيش.
غالباً ما تحمل أعمال الفنان عبدالإله أبوجيش طابعاً كلاسيكياً، يتكئ على الالتزام بخصائص أهم الخطوط التقليدية، دون أن يمنعه ذلك من طبع الخط العربي بأسلوب حديث، من خلال القيام بمحاولات تجديدية تتعلق بالتصرف اليسير في بناء تراكيب بعض خطوط لوحاته، عبر أنماط خطية يجتهد في استخلاصها وإقامة علاقات في ما بين مقاطعها وكلماتها، ليؤكد بذلك قدرة هذا الفن على مسايرة كل التحديثات، والاستفادة من كل ما تتيحه المعايير المستحدثة لتقديم فن جميل، وهو ما نجده في اللوحة التي نتناولها هنا.
مَهارة
كتب أبوجيش في لوحته جزءاً من نص الآية 53 من سورة النحل، التي يقول فيها جلّ من قائل: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾، وهي آية تشير إلى فضل الله على عباده، بنعمه التي لا تُحصى، من هدايته لهم، ورزقه إياهم، ومنحهم الصحة والعافية، وغير ذلك مما يوجب عبادته وحمده، وهو ما أراد أبوجيش عكسه في لوحته التي كتبها بخط الديواني الجلي، لما يتمتع به هذا النوع التقليدي من جماليات، تبرزها خصائصه التي تمنحه قابلية التشكيل الفني الذي يسعى إليه بعض الخطاطين مثل أبوجيش، حيث يتطلب خبرة كبيرة في التمكن من خصائصه وقواعده ومقوماته الأساسية، وخاصة قابلية حروفه للالتواء والاستدارة والتداخل، والتي تشكل مخاطرة من طرف الخطاط، فقد تشوِّه الشكل العام لعمله إذا لم يكن مُتمكناً من استخدام أدواته الفنية، إلا أن الخطاطين المهرة لا يعيرون تلك المخاطرة بالاً، ويسعون من خلال تلك الخصائص إلى تقديم أشكال مبتكرة، تبرز فيها قدراتهم على تشكيل الجمال، وشدِّ انتباه المتلقي، وهو ما وُفِّق فيه أبوجيش في هذه اللوحة.
تشكيل فنّي
إن من يشاهد هذه اللوحة يمكنه أن يكتشف الحس الفني لأبوجيش من الوهلة الأولى، لأن الشكل العام لها يوحي بذلك، فهي مصمّمة على شكل ورقة شجرة، ومكتوبة بالخط الديواني بأسلوبه التقليدي الأصيل، ومشكّلة في ألوان متناسقة تم اختيارها بعناية.
وقد سعى الخطاط إلى كتابتها بتركيب خطّي مُحكم، ملتزماً أهمّ خصائص الديواني الجلي، فانطلق من الأسفل، وكتب «وَمَا»، راسماً الواو بما يجعل عينها متناسقة بصرياً مع عيون كل الحروف التي تقع معها على طرف الجانب الأيمن، وراسماً «ما» في شكل ضخم يوحي بهيئة الكف، لتحمل وتُلامس كل الكلمات التي تُتمّ دلالتَها في النص، إشارة إلى كثرة ما تعنيه من فضل الله، وكتب «بِكُم» في حضن «ما»، لتأكيد الإشارة السابقة، وليُوحي بأن خلق البشر أنفسهم من ذلك الفضل، ثم كتب «مِن» بشكل عريض، لتأكيد سعة ذلك الفضل، وقد جعلها تحمل كلمة «نِعْمَةٍ، التي كتبها في حضنها، بشكل عريض أيضاً لزيادة تأكيد المعنى السالف، ثم كتب «فَمِنَ» مائلةً، وقد انطلق في كتابتها من أعلى الشكل، ومرّرها منسابة نحو الأسفل، للإشارة إلى أن تلك النعم تتنزّل من الخالق في عُلُوّه إلى عباده في الأرض، ثم كتب اسم الجلالة «اللَّه» مقابلاً ل«فمن»، وقد أرسل لامه إلى الأعلى في لمسة ديوانية مُتقنَة، لتأكيد معنى تنزّل الفضل من الله جلّ في عُلاه، ولتشكّل تناسقاً بصرياً مع طرف حرف الميم من «بكم» أسفل الشكل العام للتكوين الخطي.
ويكمل أبوجيش شعور المشاهد بحسه الفني العالي في اللوحة من خلال ألوانها المتناسقة، بين تدرّج اللون الأخضر في حبره، ورمزيته للنُّمو والانسجام، والخلفية الصفراء التي تعكس ضرورة الانتباه والتعقل، لما يعنيه النص، إضافة إلى كثرة التنقيط والزخارف التي جعلت الشكل العام للوحة في تمام الإبداع، المازج بين الأصالة والمعاصرة.
إضاءة
ولد الفنان عبدالإله أبوجيش سنة 1968م، ودرس الخط العربي على يد الدكتور صلاح الدين شيرزاد ونال الإجازة منه، كما درس علوم اللغة العربية والفقه المالكي والمنطق على يد كل من الشيخ العلامة الدكتور محمد سعيد الشنقيطي، والشيخ محمد فال الشنقيطي، وحصل على الجائزة الثانية في مسابقة الصندوق الوقفي للثقافة والفكر بدولة الكويت سنة 1995، والجائزة الرابعة في مسابقة مكتب الشهيد الدولية للخط العربي بدولة الكويت سنة 1997، والجائزة الثانية في مسابقة الخط العربي الدولية بلاهور في باكستان سنة 2003، وهو عضو لجنة إعداد المعجم الأول للخطاطين المعاصرين الذي أصدرته الأمانة العامة للأوقاف بدولة الكويت، وأقام العديد من الدورات التكوينية في فن الخط، من بينها دورة لتحسين الخط العربي عبر شبكة الإنترنت بالتعاون مع موقع دورات، كما نفّذ خطوط لوحات فنية تقليدية بطباعة عصرية لصالح مؤسسة «صنيب» في لندن، وشارك في العديد من الفعاليات الفنية في مجال الخط العربي.
0 تعليق